ثمة أشخاص لا نشعر بغيابهم لشدة حضورهم في الوعي العام ولشدة تأثيرهم في حياتنا. عرفات من هذا النوع الذي رغم مرارة الفقد ووجع الرحيل إلا أنه يظل حاضراً في كل مناحي الحياة التي كان له باع طويل في صياغتها خلال سني عمره. هذا النوع من القادة لا يرحلون وهذا حديث ليس مجازاً ولا صياغة صقيلة لفكرة عابرة، بل هو تعبير حقيقي عن واقع خاص وعن رحيل يظل حاضراً وحضور لا يرحل مهما كانت الظروف. وربما لأننا كفلسطينيين يمكن لنا أن نستحضر فقط ياسر عرفات في هذا المقام فهو الرجل الأكثر تأثيراً في حياة الفلسطينيين طوال العقود الماضية وسيظل هذا التأثير حاضراً لعقود قادمة.
لم يكن عرفات مجرد رئيس لشعب كما لم يكن مجرد قائد لثورة كما لم يكن مجرد ثائر ساهم في إطلاق ثورة مع رفاق دربه، كان عرفات جوهر الفكرة الوطنية الفلسطينية التي أريد لها أن تزول بعد النكبة، وكان الخلاصة الصافية لماء ذهب الروح الفلسطينية التي ستنبعث بعد الشتات الكبير والطرد خارج البلاد. وبقدر ما كانت «فتح» التي قادها هي الجين الوراثي للوطنية الفلسطينية فإن عرفات بوصفه زعيم «فتح» كان الكرموزوم الجامع لهذه الروح التي يهبها لونها وشكلها وخصائصها للدرجة التي يمكن أن نجد هذا التطابق في السياق الفلسطيني بين مفهوم الوطنية ومفهوم العرفاتية، وبالقدر الذي يكون في كل فلسطيني شيء من عرفات ومن هذه العرفاتية، شيء يختلف من فرد لآخر إلا أنه يظل ذات الشيء الذي يجعل من هذا الفرد وطنياً وثائراً ومدافعاً عن قضية شعبه، وهذا هو جوهر الفكرة العرفاتية التي نذر عرفات نفسه من أجلها والتي اختصرها بعبارته «شعبي شعبي» وتفانيه ونسيانه لنفسه مقابل التفكير بشعبه، حتى في تلك اللحظات التي كان يودع فيها الحياة حين كان يضيق عليه الحصار وتقترب الدبابات من آخر نقطة كانت حرة في البلاد، لم يكن يفكر إلا في شعبه ووطنه. كان عرفات هو الوطن وهو الفكرة عن الوطن وهو الكفاح في سبيل هذا الوطن. وحده اختصر كل شيء وسار بكل شيء إلى أبعد مدى. فهم مثل الثلة الطاهرة من الآباء المؤسسين جوهر الفكرة وجوهر النقاش وأساس النقاش. لم يكن هذا مجرد استعمار ولا كانت دولة الاحتلال مجرد بذرة شيطانية زرعها الغرب من أجل الحفاظ على مصالحه وإبقاء المنطقة متوترة ولم يكن هؤلاء مجرد لصوص سرقوا البلاد طمعاً في خيراتها ولا هم كهنة لم يجدوا معبداً لوضع تعاليمهم وطقوس ممارساتهم فقرروا أن ينبشوا أرض الغير لزرع هذا المعبد، فهم عرفات القصة بأن شعبه يراد له أن يزول وينتهي وللبلاد أن تُسرق وتهدم من أجل رفاهية الآخرين ومن أجل تحقيق كل ما سبق، لذلك قرر أن أول فكرة يجب أن تنطلق منها الثورة هي فكرة حركة الشعب وثورته.
عرفات الذي عاش في زمن رأى فيه النكبة بأم عينيه، وخبر الضياع والتشريد، ورأى من شرفة منزل جده في القدس الأماكن المقدسة يتم تهويدها بأسماء الكتب البيضاء واللجان البريطانية المختلفة وشاهد آثار النكبة، عرف أن فكرة الفصل بين الشعب والأرض هي جوهر المشروع الإحلالي الكولونيالي الذي تنفذه الحركة الصهيونية. لا شيء يريد اللاجئ إلا أن يقاتل من أجل حقه بالعودة لبيته، لذا لم يجد عرفات شيئاً مغرياً في كل الخطابات السائدة في ذلك الوقت، إذ إن الفكر والأيديولوجيا لا تساعد في فهم ما يجري، لا الأفكار القومية العريضة ولا أيديولوجيا التدين واستغلال الدين ولا كل مساجلات المثقفين، لأن ثمة أيديولوجيا وحيدة يفهمها اللاجئ الذي تم طرده من بلاده هي أيديولوجيا العودة للبلاد، وهذه لا تتحقق إلا من خلال القتال بدون أي أيديولوجيا أخرى من أجل تحقيق ذلك. وكان هذا جوهر الفكرة الفتحاوية التي كان عرفات أحد آبائها وتم اصطفاؤه لأسباب عديدة ليقودها، وربما أهم هذه الأسباب أنه فعلاً يشكل في وعيه وتصرفاته نقاء الفكرة بشكل جلي وواضح. وربما يمكن بتمعن وتدقيق تبيان كيف كان عرفات شيئا من كل واحد من زملائه المؤسسين، فكان صهراً واضحاً لتباينهم وخلاصة مركزة لوعيهم وشخصياتهم؛ ففيه من كل واحد منهم القليل، وبمجمله هو كلهم في واحد.
لذلك فإن عرفات هو الوعي الفلسطيني تجاه الوطن وهو في كل ما فعل في حياته يشكل هذا الرابط الذي يربط الفلسطيني بالبلاد. مثلاً، قلة يحظون بأن تتحول عباراتهم إلى أمثال ومقولات شعبية تشكل جزءاً من المحكي اليومي مثلما كان عرفات. تذكروا «يا جبل ما يهزك ريح» مثلاً وعبارات كثيرة صارت بوصلة الخطاب للكل الوطني، حتى ان بعض التراكيب مثل «المشروع الوطني» و»القرار الوطني المستقل» صارت عبارات أساسية في الخطاب السياسي الفلسطيني. وحتى من عارضوا عرفات لم يكن لهم أن يفلتوا من هذه العرفاتية التي هي في جوهر فلسطينيتهم لأن عرفات وحده من استطاع أن يكون الجميع، وأعطى المجموع هوية الواحد.
عشرون عاماً مرت، وستمر عشرون عاماً أخرى ولا شيء يتغير من مكانة عرفات، بل إن مثل هذه المكانة تتعزز مع الوقت لأنها تزداد لمعاناً وبريقاً ليس في وقت الأزمات بل أيضاً في كل الأزمان، وحين تعود البلاد لأصحابها سيقول أبناؤنا وأحفادنا الذين لم يعيشوا مع عرفات يوما واحدا، إن عرفات سيكون سعيداً لو كان بيننا، وهذا يوم كان يتمناه. وفي ذلك الوقت الذي سيطلق اسم شارع رئيسي في القدس ويافا وحيفا على اسمه سيعيد الآباء سرد حكاية الرجل الذي لم يعرف شيئاً لم يربطه بفلسطين ولا سلك طريقاً يقربه منها، وظل على هذا الحال حتى استشهد في سبيل ذلك.