شهدت الساحة الدبلوماسية مؤخراً توتراً متصاعداً بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وذلك بعد تصريحات متبادلة عبر وسائل الإعلام. بدأ الخلاف عندما قام ماكرون بتذكير نتنياهو، من خلال تصريحاته الإعلامية بأن إسرائيل مدينة بوجودها إلى اعتراف الأمم المتحدة بإنشائها عبر قرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947، الذي نص على تقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية. أكد ماكرون في تصريحاته على أن الاعتراف الدولي الذي منحته الأمم المتحدة هو الذي أضفى الشرعية على إسرائيل كدولة حديثة.
رد نتنياهو على تصريحات ماكرون كان لافتاً، حيث سعى لتحريف التاريخ من خلال ادعائه أن النصر العسكري لإسرائيل في حرب 1948 هو العامل الحاسم في تأسيس الدولة، متجاهلاً دور الأمم المتحدة وقرارها. هذا الرد أثار جدلاً واسعاً، خصوصاً أن تصريحات نتنياهو محاولة لتزييف الوقائع وتجاهل أهمية الشرعية الدولية في إنشاء الدول. تبع ذلك اعتداء من أفراد الشرطة الإسرائيلية على دبلوماسيين فرنسيين في القدس القديمة وفي موقع الكنيسة التي تعتبر مساحة سيادية للجمهورية الفرنسية، وحسب اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية 1961 فهذا الموقع يتمتع بحصانة باعتباره أرضاً سيادية لفرنسا في القدس، ولا يجوز المساس به. إثر ذلك، قامت الجمهورية الفرنسية باستدعاء السفير الإسرائيلي في باريس لتوبيخه.
هذه التطورات الدبلوماسية مهمة جداً خاصة بعد تصاعد الموقف الفرنسي الممثل من قبل ماكرون بتبني سياسة تعزيز القانون الدولي والدبلوماسية كأدوات أساسية لحل النزاعات، ومناداتهم المتكررة بضرورة وقف إطلاق النار في غزة، ورفضهم المعاناة الإنسانية التي يتسبب بها الاحتلال في غزة، وعنف المستوطنين في الضفة، ومناصرتهم للجهود الدولية الساعية للاعتراف بالدولة الفلسطينية انطلاقاً من حق الفلسطينيين بتقرير المصير والتزام فرنسا بواجبها القانوني والأخلاقي كعضو في المنظومة الدولية الراعية لحل الدولتين. المسؤولون الفرنسيون أبدوا استياءهم من تصريحات نتنياهو التي تجاهلت دور الأمم المتحدة في تأسيس إسرائيل ثم قرار إغلاق الأونروا والاعتداء على حقوق اللاجئين في محاولة لفرض حقائق جديدة، ما يقلل من أهمية الأسس القانونية والدبلوماسية التي تضمن شرعية الدول الحديثة.
الحقيقة أن إسرائيل لم تكن لتُقام لولا هذا الاعتراف الدولي، وأن تهميش هذا الدور لصالح القوة العسكرية يعزز فكرة أن القوة تتفوق على العدالة، وهو ما يزيد من تعقيد محاولات إحلال السلام في الشرق الأوسط، واستمرار تمتع دولة الاحتلال بالإفلات من العقاب والهروب من المحاسبة.
في الوقت الذي يسعى فيه نتنياهو إلى تعزيز رواية أن إسرائيل قامت بفضل انتصاراتها العسكرية، يُذكّره ماكرون بأن الدبلوماسية والشرعية الدولية هما الركيزتان الأساسيتان لأي دولة حديثة، بما في ذلك إسرائيل. هذا الخلاف الإعلامي يعكس تبايناً عميقاً في النظرة إلى الشرعية الدولية وحقوق الشعوب. فبينما يروج نتنياهو لرواية تستند إلى القوة، يدافع موقف ماكرون عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بناءً على القرارات الدولية نفسها التي اعترفت بإسرائيل.
هذا الجدل يعيد إلى الأذهان كيف أن الدعاية الإسرائيلية، أو "الهاسبارا"، تُستخدم لتبرير سياسات الاحتلال وتبرير التحركات الإسرائيلية على الساحة الدولية من خلال تحريف الحقائق وقلب الوقائع، وبناء سردية جديدة تلغي التاريخ. هذا الفكر ينبثق من قاعدة المصالح التي تحدد مفهوم العلاقات الدولية في المدرسة البراغماتية النيوليبرالية. لكن في المقابل، ترى العديد من الدول اليوم أن احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام الدائم والاستقرار الاستراتيجي على مستوى العلاقات في الشرق الأوسط، ولا يمكن تحقيق ذلك بتجاهل حقوق الفلسطينيين أو تحريف التاريخ.
ماكرون يُذكّر نتنياهو بأن التاريخ لا يمكن إعادة كتابته لخدمة الأهداف السياسية الشخصية، وتبقى الشرعية الدولية والقانون الدولي أساس العلاقات بين الدول في النظام العالمي المعاصر، وأن الطريق نحو السلام يمر عبر الاعتراف بحقوق جميع الأطراف والالتزام بالعدالة، وليس عبر إضفاء الشرعية على الاحتلال أو تهميش حقوق الشعوب.
التصريحات الفرنسية مهمة جداً في العالم الدبلوماسي، وهناك أملٌ باعتراف فرنسي بالدولة الفلسطينية أسوة بإسبانيا وإيرلندا، إلا أنها لن تغير من واقع الحال إلا إذا ارتقت لتبني سياسات ثنائية من خلال الدبلوماسية القسرية المتمثلة في العقوبات والمقاطعات التجارية والاقتصادية، ووقف التسليح، والمزيد من الإجراءات القسرية التي يمكن أن تردع الجنون الإسرائيلي. مع استمرار دفاع فرنسا عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ودون ترجمة التصريحات إلى أفعال، ستسمر إسرائيل بالتمتع بالإفلات من العقاب، وبالتالي ستستمر في جرائمها وتعاملها الفوقي، ليس فقط مع الفلسطينيين، بل مع العالم أجمع