عندما يتعرض أي مجتمع لهزة عنيفة تؤدي إلى تغيير طبيعة وأنماط الحياة السائدة، وتهدد مستقبله، سواء كانت كارثة طبيعية، أو عدواناً خارجياً في هذه الحالة يتحد المجتمع، ويتماسك ويدرك بعقله الباطن أن توحده وتماسكه هو خشبة نجاته وطوق الأمان الذي سينجيهم من المحنة، فيلعب الخوف الجمعي دوراً إيجابياً بهذا الاتجاه، خاصة مع وجود قيم أخلاقية وضوابط مجتمعية ووعي عام.. ولكن هذه الحالة تتناسب عكسياً مع شدة الضربة التي يتلقاها المجتمع، ومع طول فترة التهديد، بمعنى أنَّ مرور الوقت يضغط بقوة باتجاه فكفكة هذه الحالة تدريجياً.
ولو أخذنا مثال الانتفاضة الأولى سنجد أن المجتمع تصرف في السنوات الأولى بشكل إيجابي وتعاوني، وأظهر صوراً متقدمة وإيجابية من التضامن والتكافل الاجتماعي، ورغم عدم وجود سلطة فلسطينية آنذاك، وعدم وجود أجهزة أمنية وقضائية، إلا أن المجتمع المدني حافظ على الأمن والسلم الأهلي بدرجة مثيرة للانتباه، لكن مع مرور الوقت بدأت الصورة تتغير سلبياً، وأخذت تطغى عليها مظاهر الفوضى، والانفلات الأمني، والنزاعات العشائرية وعمليات التصفية والانتقام.
في الانتفاضة الثانية تكررت الصورة، فبقي المجتمع متماسكاً ومنضبطاً وموحداً، رغم أنَّ الضغط الخارجي ومستوى العنف المسلط من قبل الاحتلال كانا أكبر بكثير مقارنة بالانتفاضة الأولى، ربما بسبب وجود سلطة، وأجهزة أمن، وقضاء.. ولكن، أيضاً، لم تدم هذه الحالة طويلاً، فقد بدأت تطغى مظاهر الفوضى والانفلات الأمني والتعديات على القانون، خاصة مع ضعف مؤسسات السلطة واختفائها أحياناً.
في الحرب العدوانية على غزة يمكن القول: إن الصورة تكررت، ولكن بتكثيف أكبر بكثير، فقد تعرض القطاع لعنفٍ غير مسبوق، أدى إلى تدمير كل شيء حرفياً: البيوت والمؤسسات الصحية والتعليمية والأمنية والقضائية والبنية التحتية، ومقتل عشرات الآلاف، ونزوح أغلب السكان وفقدانهم المأوى والأمن.. ورغم ذلك حافظ المجتمع على قيمه وتماسكه وتعاضده في أشهر الحرب الأولى، ولكن مع زيادة شدة مستويات العنف، وطول مدته، وعدم وجود أفق لحل سياسي أو حتى إنساني.. بدأت الأمور تنهار وبسرعات رهيبة.
قرابة مليونَي نازح، يعيشون في مراكز إيواء لا تتوافر فيها أدنى مقومات الحياة، وقد تحولت حياتهم إلى بؤس وشقاء وطوابير مذلة، بحثاً عن كومة حطب، أو رغيف خبز، أو لدخول المرحاض.. وأعداد كبيرة منهم لم يحصلوا على خيمة، ولا تصلهم المساعدات، ومنهم من يبيت في العراء.
فوضى شديدة على الطوابير، والأغلبية يتحدثون عن الوساطات والمحسوبيات، ويشكون من غياب العدالة في التوزيع، فضلاً عن الغلاء الفاحش في الأسعار وتغوّل التجار، والعمولات الباهظة التي يفرضها السماسرة، وسرقة المساعدات وبيعها بأسعار فلكية، والاستغلال البشع لحاجات النازحين لخيمة، أو لغرفة مستأجرة.
مع أن سرقة بيوت النازحين في بدايات الحرب كانت بقصد الحصول على الطعام، أو أي شيء يساعد على البقاء، لكن الظاهرة تطورت، وانتشرت وصارت سرقة كل شيء، حتى تحولت إلى ظاهرة خطيرة، ولم تعد مقتصرة على عصابات منظمة. ولم تعد السرقة هي المشكلة الوحيدة؛ فقد تفشت الظواهر السلبية بأنواعها، وانعكست على سلوك الناس، وظهرت مسلكيات اجتماعية لم تكن مقبولة سابقاً، بمعنى أن بنية المجتمع التقليدية ضُربت، لدرجة أنه حتى بعد انتهاء الحرب سيحتاج المجتمع فترات طويلة حتى يبرأ منها.
ما يحصل في غزة الآن مرعب وخطير.. ولا تقتصر الخطورة على الفوضى والانفلات الأمني، الذي يتفاقم يوماً بعد يوم، واستقواء بعض العائلات على غيرها، وظهور العصابات المسلحة، والجواسيس وتجار المخدرات.. الخطورة أنه ما من جهة رادعة، ولا توجد أي حماية للمواطنين.. مع أن "حماس" وحدها من يمتلك السلاح والقوة، لكن يبدو وبحسب أقوال لمواطنين أنها تغض الطرف عن سارقي المساعدات والسماسرة وتجار الحروب، إما لأنها عاجزة، أو متواطئة ومستفيدة.
كما تسعى مجموعات من "حماس" لإسكات أي صوت يتحدث عن تلك الظواهر السلبية والمخيفة، وبدلاً من تحمل مسؤولياتها للأسف تلجأ للعنف الداخلي، والإرهاب الفكري ضد كل من ينتقد ويصرخ ويستغيث. وهذه تصرفات حمقاء ستجر الجميع إلى أتون الفتنة والاقتتال الداخلي.
الخطورة أن ينتقل الخلاف في الرأي من الكلام والنقاش إلى مستوى الفعل والانتقام، هذا لن يخلق سوى الكراهية والحقد والمزيد من التعصب والتشظي.. ويبدو أن بعض المتشددين من "حماس" قد بدؤوا مبكراً التحول إلى هذا الاتجاه، فإذا كان حالنا الآن ونحن جميعاً تحت القصف الإسرائيلي، فكيف سيكون حالنا في "اليوم التالي" للحرب؟
هذا الخراب والتخريب المنهجي سيفتتح حلقة جديدة من مسلسل الصراع الأهلي، وصراع كهذا أخطر وأشد وأعنف، ولن يسلم منه أحد؛ من اعتدى ومن اعتدي عليه، ستتسع دوائر الانتقام، وحلقات العنف.
في الحروب والأزمات الشديدة يغيب العقل الجمعي الواعي، ويحل مكانه العقل الفردي المحكوم للنزعات البدائية، أي نزعة البقاء، ويصبح الحل والخلاص فردياً، على كل شخص أن ينجو بنفسه، وينحصر همه في عائلته فقط، بصرف النظر عن مصير الآخرين.. الحرب تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية، وتستفز وتستدعي نزعاتها البدائية والمتوحشة، تحت وطأة الخوف والرعب والقلق وانعدام الأمل، خاصة مع انهيار المنظومة المجتمعية، وغياب الضوابط وشيوع الفوضى.. هذه حالة متوقعة أصابت كل المجتمعات الإنسانية قديماً وحديثاً، وفي كل مكان.
طبعاً كل الظواهر السلبية التي تحدثنا عنها لا تصيب جميع المجتمع، تبدأ بالشرائح الضعيفة (نفسياً، ومادياً، وثقافة، ووعياً) ثم تمتد إلى بقية الشرائح.. لكن نواة المجتمع الصلبة المسلحة بالوعي والانتماء والإنسانية تظل صامدة ومتماسكة، وهي التي تعيد بناء المجتمع بعد انقضاء الأزمة وزوال التهديد.
هذا الانهيار المجتمعي بدأ يظهر بوضوح منذ مدة ليست قصيرة، لكن الإعلام يتكتّم عليها، حتى لا يخدش الصورة "المثالية" التي صدّرها عن مجتمع غزة، وعن المقاومة وحاضنتها المفترضة.. ما يجري من سرقات وتعديات واستغلال وسمسرة وذل وبهدلة وامتهان لكرامة الناس، ومن تفتت اجتماعي، وانهيار قيمي وصل حداً خطيراً لدرجة أن الجميع يخجل من ذكر الكثير من القصص، التي تبدو شاذة الآن، ولكن إن استمر مسلسل التدهور فتصبح مجرد قصص يومية.
لا شك أن إسرائيل تتحمل المسؤولية عن كل ما يجري في غزة، لأنها قوة احتلال، ولأنها هي التي شنت الحرب، ولأنها تدفع بالأمور بخطط مدروسة نحو مزيد من الانهيار والتفكك.
أوقفوا هذه الحرب العبثية قبل أن نفقد ما تبقى من إنسانيتنا.
كيف نحبط الضم القادم؟
19 نوفمبر 2024