ضحايا، ليسوا بريئين تماماً

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة


 


من أكثر الأعمال سذاجة قراءة التاريخ على نمط القصص ذات النهايات السعيدة أو الدرامية، تبدأ بـ»كان يا ما كان»، أبطالها فقط الفارس الشجاع والأميرة الحسناء والساحرة الشريرة، وأحياناً الملك ووزيره المخلص.. وتنتهي بـ»توتة توتة وخلصت الحدوتة».
هذا النمط الساذج من التفكير الطفولي لا تجده فقط في قصص الأولاد، بل هو في صميم تاريخنا المكتوب والمنقول شفاهة، فعمليات التأريخ كانت دوماً ترتكز إلى شخص الإمبراطور، أو زعيم القبيلة، أو الخليفة، وتركز على قائد الجيش المغوار، بسرد تسطيحي يقفز مباشرة إلى النتائج، والتي ستكون وفق الرغبة السياسية للمدون والراوي، بإهمال جانبَيّ الصراع، وكأنَّ كل طرف عبارة عن كتلة صماء متجانسة من المشاعر والأفكار والتوجهات والمصالح. وعند تناول ظاهرة أو حدث يتم إغفال التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وتأثير العوامل الديموغرافية والثقافية والأنثروبيولوجية.
وعادة ما تكون قراءة انتقائية تتجاهل السياق التاريخي والسيسيولوجي، فمثلاً نقول بنى الملك خوفو الهرم الأكبر.. دون ذكر دور العمّال والمزارعين والمهندسين، والصراع الاجتماعي والسياق الثقافي والديني.. أو حرر الرئيس لنكولن العبيد.. دون التطرق للعوامل الاقتصادية الداخلية، وأثر التنافس مع بريطانيا وحركة التجارة الدولية، ونضال العبيد أنفسهم.. أو فتحَ الخليفة فلان بلاد السند والهند.. دون الحديث عن الأهداف الاقتصادية والنزعات المادية البشرية والسياق التاريخي للفتوحات وثقافة الغزو وأثر ذلك على البلاد المفتوحة، وماذا حل بالعباد الذين فقدوا أرواحهم وأمنهم وأسرهم.
وبالمثل عندما نصف مرحلة تاريخية، أو شعباً معيناً، أو حضارة ما.. نظن أنها على نسق واحد فنطلق عليها الأوصاف المطلقة والتقريرية.
ودوماً يتم تقسيم العالم أو طرفَي الصراع إلى كتلتين متناقضتين في كل شيء، الشرق والغرب، اليسار واليمين، الحق والباطل، المسلمين ضد الكفار، الجماهير ضد السلطة، الفقراء ضد الأثرياء، الرأسمالية ضد الإقطاع، الشعب ضد الاستعمار.. مع أن هذه التقسيمات صحيحة نسبياً من جهة وجود العديد من النقاط المشتركة والعديد من أوجه التشابه داخل كل طرف.. لكنها تقسيمات نمطية تتجاهل تداخل الكثير من العوامل عند كل نقطة تحول تاريخية وتأثر تلك العوامل ببعضها. وتتجاهل وجود شرائح اجتماعية معينة ستختلف في أنماطها التفكيرية والثقافية وفي مصالحها الذاتية وتوجهاتها عن سائر المكون الاجتماعي الذي تنتمي إليه سواء كانت طائفة أو قبيلة أو شعباً في ظل دولة وطنية.  
الحقيقة أن الظاهرة الاجتماعية والتاريخية أعمق من ذلك بكثير، ولا تجوز معها تلك القراءة التسطيحية ولا ذلك التنميط المتعالي.
مثلاً؛ بمجرد الحديث عن إبادة الهنود الحمر سنصب اللعنات على الرجل الأبيض المستعمر الذي مارس حملات التطهير العرقي بحق السكان الأصليين، حتى أبادهم تقريباً.. لكن هذا المستعمر لم يكن له أن يفعل كل ذلك وباقتدار لولا أن القبائل الهندية تقاتلت فيما بينها، حتى أنهكت وأضعفت نفسها.. وعند الحديث عن تاريخ العبودية ستقفز إلى الذهن مشاهد مسلسل «الجذور»، وتنكيل الرجل الأبيض بالعبيد، والظلم الذي لحق بهم.. وسنلعن تاريخ أميركا الملطخ بمعاناة وقهر العبيد على مدى قرون.. وهذا صحيح أيضاً، لكن أميركا كانت آخر دولة تتاجر بالعبيد، وقد سبقتها شعوب كثيرة في هذا التاريخ المظلم والظالم.. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية لم يكن لتجارة العبيد أن تزدهر (خاصة في القارة الإفريقية) لولا مشاركة وتواطؤ الأفارقة أنفسهم، ولولا تاريخ مظلم من عبودية السود لبعضهم بعضاً داخل القارة الإفريقية قبل وأثناء دخول الرجل الأبيض على الخط.
وأيضاً، بالحديث عن تاريخ استعمار الهند (250 سنة) سنلقي اللوم كله على البريطانيين وظلمهم وتعسفهم وأطماعهم وتوحشهم.. وهذا صحيح قطعاً، لكن يجب أن نتذكر التركيبة الاجتماعية الطبقية في الهند، وتاريخاً طويلاً من الظلم الاجتماعي مارسته الطبقات الثرية والإقطاعية ضد الفقراء، وتحالف فئات اجتماعية معينة مع الاحتلال البريطاني، فضلاً عن أسباب الجهل والتخلف.  
خاض الشعب الفيتنامي نضالاً مريراً ضد الاحتلال الفرنسي والأميركي، وقدم تضحيات هائلة، لكن كما ظهر الفيتكونغ ظهر جيش البيريهات الخضر، وكما أقام هو شي منه هانوي، أقيمت في الجزء الجنوبي من البلاد سايغون برعاية أميركية، ومن الظلم تقسيم الناس إلى خائن ووطني لمجرد اختلاف وجهات النظر، فالثوار وقياداتهم ليسوا دوماً ملائكة، بل منهم من صار مستبداً ودكتاتورياً، وقد تكون هناك فئات ونخب محايدة، أو لا تملك من أمرها شيئاً، في الطرفين طبعاً.
جميع الشعوب التي احتلت بلدانها قاومت المستعمر، لكن هذا لا يعني أن كل فئات الشعب كانت على قلب رجل واحد، ولها التوجهات ذاتها، ولا أتحدث هنا عن العملاء والجواسيس والمنتفعين.. بل أقصد الفئات والنخب التي كانت تمتلك وجهات نظر أخرى من حيث الأهداف والأساليب والأفكار، وهذه غالباً إما ضُربت أو اتهِمت أو غُـيِّب صوتها.. في المقلب الآخر ستجد في الشعب المستعمِر فئاتٍ ونخباً ترفض الاستعمار وترفض ممارساته الوحشية، وتنادي بحرية الشعوب المضطهدة، هذا حصل في فرنسا أثناء احتلالها للجزائر، وفي أميركا أثناء حربها على فيتنام، وأثناء نضال السود للمطالبة بالحقوق المدنية، وفي جنوب إفريقيا أثناء فترة النضال الوطني ضد حكومة الأبارتهايد، بل وفي كل مكان وزمان.
في فلسطين نجح المشروع الصهيوني لأسباب كثيرة، من بينها طغيان النزعة العشائرية والصراعات الداخلية بين الفلسطينيين أنفسهم، في مرحلة ما قبل النكبة.. وبعد النكبة لعبت الأنظمة العربية دوراً تآمرياً مكملاً للمخططات الصهيونية.. وفي العصر الحديث ألحقنا بأنفسنا المزيد من الهزائم والنكبات بفعل الانقسام والمغامرات العسكرية والدخول في لعبة المحاور الإقليمية.  
ما ذكرته لا يبرئ القوى الاستعمارية والإمبريالية ولا يعفيها من مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية والتاريخية، بل يدينها، لكنه لا يعفي الضحايا تماماً، من جهلهم، ومن تواطئهم وتآمرهم على أنفسهم أحياناً.