لصناعة إسورة أو عقد يحتاج صائغ الذهب لمعدات تختلف عن تلك التي سيحتاجها الحدّاد لصناعة باب أو شبك حماية، وبالمثل سيحتاج المزارع لحراثة الأرض وتهيئتها واستقبال الموسم لأدوات ومعدات تختلف عن تلك التي سيحتاجها معلم المدرسة لاستقبال عام دراسي جديد، وهكذا.. تلك أمور بديهية ومجرد أمثلة لتبسيط الفكرة.
ولكن، أحياناً قد يكون الصانع هاوياً أو مبتدئاً، أو اضطر لإجراء عملٍ ما خارج ورشته وبشكل مستعجل، حينها قد يُجبر على استخدام أدوات غير ملائمة، بما توفر لديه، فلا يكون العمل متقناً بالشكل المطلوب، أو قد يستخدم أداة معطوبة أو غير مناسبة وحينها سيكون المنتج رديئاً.. وهذه أمثلة إضافية سنحتاجها لاحقاً. المهم أن الهدف يرتبط بالضرورة بالأداة، ووجود الأداة دليل على الهدف وعلى هوية الفاعل.
لنأتِ إلى الفكرة.. لو أخذنا أي دولة قوية مثالاً، سنجد أنها تستخدم أدوات لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية معينة، قد لا تستطيع تحقيقها بشكل مباشر. والأدوات المقصودة ستكون إما دولة تابعة لها، أو كياناً سياسياً حليفاً، أو حزباً موالياً، أو شخصيات مقربة، أو فصيلاً مسلحاً يأتمر بأمرها.. والأهم مما سبق «وسيلة الإعلام المركزية» التي ستوظفها لتحقيق أهدافها العليا، من خلال توجيه الرأي العام، أو توجيه مسارات شعبية معينة، أو صناعة وترويج مصطلحات وخرائط ومفاهيم معينة، أو تلميع شخصيات، أو تشويه آخرين، أو بممارسة الضخ الإعلامي وتركيز الانتباه، والتضخيم والمبالغات، أو التقليل من شأن قضية أو جهة ما، ومحاربتها إعلامياً.
في هذه الحالة سيكون من السهل على أي متابع حصيف معرفة توجهات الدولة السياسية، وأهدافها بعيدة المدى، من خلال متابعة الأداة الإعلامية لتلك الدولة، كل ما عليه أن يرى على ماذا تركز، وماذا تهمل، ومن هي الجهة التي تمدحها أو تقدمها بشكل إيجابي للجمهور، أو تذمها حتى لو بطريقة غير مباشرة.
لو أخذنا دولة قطر مثالاً، وأداتها الإعلامية المركزية «الجزيرة» وطبقنا هذه النظرية البديهية المشفوعة بالأمثلة، وبقليل من التفكير والبحث عن الأدلة والربط بينها سنعرف بالضبط توجهات الدولة وميولها وأهدافها.. ولكن قبل ذلك يتوجب التعريف بشكل دقيق وصريح على الدولة ذاتها.
وقبل ذلك يتوجب تمييز ثلاثة أنواع من الدول، الأولى: الدول القوية المستقلة سياسياً واقتصادياً، والتي تصنع سياساتها بنفسها، ولديها أدوات خارجية تحركها وتشغلها، وإعلام مركزي تتحكم فيه (وهذه تنطبق على القوى الدولية العظمى)، النوع الثاني: دول قوية نسبياً ومستقلة شكلياً لكنها لا تمتلك سيادة تامة على توجهاتها، وتسمي تبعيتها لدولٍ أقوى منها بالتحالف، أو تصف رضوخها للدول الكبرى بالتكيف والبراغماتية ولمصلحة الشعب.. (العديد من الدول العربية والإقليمية، ومعظم دول العالم الثالث). النوع الثالث: الدول والكيانات التابعة كلياً أو جزئياً لدول كبرى، وهذه تأتمر بأمرها، وتنفذ سياساتها طوعاً (أو كرهاً)، وبالتأكيد العلاقة التبعية نفسها تنطبق على الكيانات الصغيرة والتنظيمات والفصائل والأحزاب وقوى المعارضة.. وهذه تسمى دولاً أو كيانات «ذات دور وظيفي» (إسرائيل، والدول الإبراهيمية، والعديد من الأنظمة العربية، والأحزاب والفصائل خاصة قوى الإسلام السياسي)، وطبعاً مع هامش ضئيل للتحرك والمناورة وتلمّس المصالح الخاصة سواء للدولة أو للتنظيم، أو للطبقة الحاكمة والأشخاص.
تنتمي قطر لمجموعة الدول ذات الدور الوظيفي، ورغم غناها الفاحش، إلا أنها ارتأت أن تكون تابعاً للولايات المتحدة. ولتأمين حماية النظام (داخلياً وخارجياً) استضافت قاعدتين أميركيتين على أراضيها، وأقامت علاقات سرية وعلنية مع إسرائيل منذ أواسط التسعينيات وقبل دول التطبيع العلني، ووظفت مقدراتها وأموالها لتحقيق الأهداف الأميركية في الإقليم، قبل افتتاح سباق التنافس بين دول المنطقة على إرضاء واشنطن.
هذه قطر، وهذا دورها الوظيفي، بقي أن نتعرف على أداتها الأهم «الجزيرة».. التي استطاعت من خلالها تحقيق أهدافها الكبرى، وقبل التوسع بالشرح ضع في ذهنك قاعدة «الهدف والأداة»، وتذكر دوماً أن الجزيرة مجرد أداة لتحقيق أهداف الدولة، التي حددناها بالدور الوظيفي.. بقي عليك أن تشغل فكرك وخيالك وتحكم بنفسك.. شريطة الانتباه للمصيدة التي وقع فيها أغلب جمهور الجزيرة ومحبيها.. وللتوضيح لا بأس بمثال إضافي: إذا أردت اصطياد عصافير ستضع لها حبوبها المفضلة (قمح، أرز، فتات..)، وإذا أردت اصطياد نمراً لن تضع له خبزاً، ستضع له ماعزاً مثلاً.. فالطُّعم يجب أن يكون محبباً ومناسباً للصيدة، ويتناسب مع الهدف: هل تريد الطريدة حية ومعافاة، أو تريدها ميتة.. والجزيرة عندما أرادت استقطاب (اصطياد) أكبر نسبة من الجمهور وضعت لهم الطُّعم المناسب والمحبب: أخبار فلسطين، والمقاومة، وتدمير الدبابات، وقرب انهيار إسرائيل، وإنهاك جيش الاحتلال، وتفكك الحكومة اليمينية، ونقل معاناة النازحين، وقدرات المقاومة الرهيبة، وتحليلات الدويري، وتغطية شاملة وواسعة على مدار الساعة (صحيح أنها حققت من وراء ذلك أرباحاً هائلة، لكن هذا غير مهم) المهم أنها استحوذت على النسبة الأكبر من الجمهور، وبالتالي تمكنت من تمرير رسائلها الضمنية والمباشرة، وخلقت رأياً عاماً، وحددت المسارات الفكرية والتوجهات والآراء شبه المتطابقة، وبما يخدم أهدافها بعيدة الأمد.. وقد صرتم الآن تعرفون الأهداف الحقيقية، وصار عليكم ربط كل ذلك بالنتائج الكارثية التي تحققت على الأرض، والانهيارات المتتالية، والمآلات التي وصلنا إليها جميعاً.
كانت قطر أكثر ذكاء وحكمة من جاراتها، فغطّت على تطبيعها مع إسرائيل بشعارات وخطاب المقاومة واستضافة «حماس».. وغطت على تبعيتها لأميركا بالحديث عن حقوق الإنسان، والأقليات، واستضافة «طالبان»، و»القاعدة».. وعظّمت من قوتها وتأثيرها في المحيط العربي بمهاجمة الأنظمة الرسمية واستخراج ملفات الفساد وانتهاك الحريات. وجعلت من نفسها مركزاً دولياً من خلال لعبة الوساطة وحلّ النزاعات وتحرير الرهائن وعقد الصفقات.. وهكذا أصبحت الجزيرة «سلاح الجو القطري».
في الحرب العدوانية على غزة شنت «الجزيرة» أكبر حملة تضليل في التاريخ، بتركيزها على أحداث صغيرة (قنص جندي، استهداف دبابة) وإهمالها وتجاهلها الحدث الأهم والأخطر: حرب الإبادة والتهجير، وجرائم إسرائيل الكبرى، واحتلال القطاع، وضم الضفة، وإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط.. خدرت الشعوب طويلاً بحديثها عن قرب انهيار إسرائيل، وتفكك حكومة نتنياهو.. وتعظيمها من شأن قضية الأسرى الإسرائيليين وكأنها ورقة ضغط حقيقية ستجعل الكيان يغيّر مخططاته.. وبيع الوهم بأن هزيمة إسرائيل على يد المقاومة خلال أسابيع أو أشهر.. وأن أهل غزة صامدون وأقوياء ومتكيفون مع الخيام، وبوسعهم الصبر سنوات، وأنّ تضحياتهم مطلوبة ومشروعة.
في مقال قادم، سنتحدث عن علاقة الهدف والأداة فيما يخص أميركا وأدواتها في المنطقة.