لم يكن وارداً في الحسبان أن يسقط النظام السوري في غضون عشرة أـيام فقط، ومع الاحترام لإرادة الشعب السوري في التغيير ولقوى المعارضة المسلحة، إلا أن النظام سقط لعوامل كثيرة داخلية وخارجية مرتبطة بتغيير مفهوم الشرق الأوسط.
من كان يتابع المشهد السوري طيلة الأسبوعين الماضيين، يلحظ بسرعة أن روسيا وإيران لم تتحركا لإنقاذ نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد الذي ترك لوحده في الميدان، الأمر الذي دفع الجيش السوري لمغادرة مواقعه وإخلاء أهم المراكز العسكرية والتوقف عن القتال.
في الأساس لم يكن للنظام السوري أن ينجح في قمع المعارضة بداية الثورة عام 2011 لولا الدعم الكبير الذي قدمته موسكو وطهران، غير أن الحرب التي شنتها الأولى على أوكرانيا والضربات الإسرائيلية المتتالية على مواقع عسكرية إيرانية وسورية، جعلت النظام السوري في وضع صعب لا يحسد عليه.
لا أحد يمكنه أن يفهم بالضبط ما حدث في مسألة السقوط السريع للنظام السوري. بمعنى هل يمكن القول إن روسيا باعت سورية لهدف استراتيجي يتعلق بحربها مع أوكرانيا، وهل استوعبت إيران أن التغيير في الشرق الأوسط مقبل لا محالة، وأن عليها الانكفاء والخروج من سورية؟
كذلك هل لعبت تركيا دوراً في إسقاط النظام عبر دعم المعارضة السورية المسلحة، وما طبيعة الدورين الأميركي والإسرائيلي؟ هل سقط النظام السوري لأن واشنطن غلظت العقوبات الاقتصادية على دمشق وأعطت تل أبيب الضوء الأخضر لضرب سورية وإضعافها؟
بالتأكيد تتداخل العوامل الداخلية والخارجية التي عجّلت من سقوط النظام السوري بهذه الطريقة التي لم يكن يستوعبها أحد من المحللين والمراقبين للمشهد السوري. غير أن الأهم في كل ذلك هو حالة الفوضى التي عاشها النظام طوال السنوات الماضية، والقسوة التي استخدمها ضد شعبه لإخماد جذوة الثورة.
قد بدا للجميع أن الجيش السوري حقق في الأشهر الأخيرة انتصاراً على مختلف قوى المعارضة، لكن لم يكن وارداً أن الأخيرة استفادت من اهتمامات المجتمع الدولي في ما يجري بكل من روسيا وقطاع غزة ولبنان، وبالتالي تمكنت -المعارضة- من إعادة بناء قوتها بهدوء لتوجيه الضربة القاضية ضد النظام السوري.
وهناك مشكلة أخرى تتعلق بالنظام السوري نفسه، حيث لم يتمكن من إيجاد صيغة لإعادة اللحمة الوطنية واحتواء الجماهير الغاضبة من سياساته، ونتيجة الحصار الأميركي والدولي المفروض عليه، غرق النظام السوري في وحل الفساد وسوء إدارة السلطة، وأدى التدهور الاقتصادي وتصاعد البطالة والتضخم إلى تفشي الخلاف داخل المؤسسات العسكرية والمدنية حول جدوى التضحية برواتب ضعيفة جداً، يتبع ذلك العلاقة المتوترة جداً بين النظام السياسي وقوى الشعب الحية التي ترى فيه كل عناوين الفشل والتوحش والدكتاتورية.
روسيا تخلت عن النظام السوري نعم صحيح، وإيران تخلت عنه أيضاً نعم، وإسرائيل هي أكبر المستفيدين من ما جرى، وبسبب الفراغين السياسي والعسكري في سورية، اغتنمت الفرصة للقضاء على أغلب مقدرات الجيش السوري، إلى جانب توسيع الأراضي المحتلة في الجولان وجبل الشيخ.
بالنسبة لإسرائيل، بدا لها أن ما يسمى محور الممانعة بدأ يتفكك بسقوط النظام السوري وتحييد أهم موارده العسكرية، حيث تعمدت طيلة السنوات الماضية استهداف مراكز سورية حسّاسة، وأضعفت الوجود الإيراني هناك، واستفادت من انشغال روسيا في حربها مع أوكرانيا.
حينما هرب الأسد إلى موسكو للاحتماء بها، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واقفاً مثل الطاووس، مبتسماً للصحافة ويتباهى بكونه أسهم بشكل أو بآخر في هذا السقوط، واعداً المجتمع الإسرائيلي بتغيير جذري في ملامح الشرق الأوسط.
الآن يتضح أن واشنطن وتل أبيب ترسمان ملامح الشرق الأوسط الجديد من سورية، إذ لن يكون هناك أي كلمة لروسيا أو إيران في دمشق، والمعارضة السورية ستنشغل بالتأكيد في ترتيب الوضع الداخلي ولن تكون مهتمة بفتح جبهة قتال مع أطراف خارجية.
أما تركيا فقد كان لها دور في دعم المعارضة السورية المسلحة، لأنها ترغب في إنهاء ما تعتبره الخطر الكردي الذي يهدد أراضيها في الجنوب، ولذلك كان الضغط على نظام الأسد أن أنقرة منفتحة على الحوار معه بشرط بقائها في شمال سورية، وإلا «العصا لمن عصى».
الآن وبصرف النظر عن ما جرى، تخرج سورية من محور الممانعة الذي بقيت فيه دون أن تطلق طلقةً واحدةً على إسرائيل، وستحتاج إلى سنوات طويلة حتى ترمم حضورها العسكري، وحينذاك ستتأكد تل أبيب أن «الجارة» سورية بلد ضعيف ولن ينهض أبداً، وتركيا سيهمها كذلك أن تبقى دمشق ضعيفة.