انفصام في الشخصية

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 


بعد سقوط الدكتاتور، وهروبه من البلاد، بدأت تظهر وعلى نطاق واسع صور ومقاطع وقصص عن سجن صيدنايا، وبتركيز لافت وموجه، الأمر الذي يدعو للتفكر والتوقف وطرح الأسئلة:
هل اكتشف الناس فجأة أن نظام الأسد كان دكتاتورياً ووحشياً وقمعياً؟ بالتأكيد لا.. فما من أحد إلا وسمع قصصاً عن فظائع النظام ووحشيته، أو التقى بأحد الناجين من بطشه، أو قرأ رواية «القوقعة» أو غيرها من أدب السجون، أو قرأ مقالاً أو كتاباً أو شاهد عملاً درامياً يتناول قسوة النظام وفساده وتنكيله بالسوريين.. قبل اندلاع الأزمة 2011، وأثناء سنواتها المظلمة، وبعدها.. على الأقل سمع الجميع عشرات نشرات الأخبار.
ومع ذلك، قلة قليلة من تحدثت عن ذلك، أو استنكرت، أو نشرت صورة أو مقالاً عن سجون الأسد.. لندع من كانوا موالين للنظام جانباً فبعضهم كانوا مقتنعين، وبعضهم كانوا مخدوعين بوهم «محور المقاومة»، وطبعاً سنعذر كل من كان مقيماً داخل سورية، خشية الانتقام منه، فهذا مفهوم ومبرر.. ماذا بشأن الآخرين؟!
أغلبهم كانوا يعرفون، ولكنهم آثروا الصمت والحيادية، لن أقول خوفاً، لأنهم خارج نطاق قبضة النظام، لكن الأمر لم يكن يعنيهم، وقد هيمنت عليهم حالة مريبة من التجاهل والتعامي، أو عدم الاهتمام، الحريق بعيد عن بيتنا فلِمَ أقلق؟! هذا سبب، وهناك أسباب أخرى: الأغلبية عادة تمشي مع الموجة السائدة «الترند»، حيث يصير الكلام مجانياً ولا يكلف شيئاً، بل يجلب الإعجابات، وأيضاً الأغلبية تقف مع القوي والـمُهاب (حتى لو كان ظالماً)، وتزدري الضعيف (حتى لو كان مظلوماً)، «وحين يسقط الجمل تكثر سكاكينه»، اليوم سقط ذلك الدكتاتور القوي، وانتبه الناس لظلمه، وتذكروا جرائمه! وتذكروا فجأة جموع المظلومين الضعفاء والفقراء ممن قضوا حياتهم في السجون، وتحت القهر، وفي مخيمات النزوح.
وهناك سبب رابع: استنكار الظلم، ونصرة المظلومين وحالة التيقظ الفجائي وغيرها لا تغدو عن كونها مواقف عاطفية عابرة، سرعان ما تُنسى.. وهذه ترتبط بسبب خامس: «العامّة»، أو الدهماء عدا كونهم بذاكرة سمكة، فهم لا يربطون بين الأحداث، فهناك حالة تناسٍ تامة لسجون صدام حسين، والقذافي، وسائر الأنظمة العربية (ظهرت مؤخراً مقاطع مصورة من سجن في غزة لفلسطينيين يتعرضون لتنكيل وحشي، ومع ذلك تم تجاهلها!)، بل إن نفس الموقف «العاطفي» بعد سقوط تلك الأنظمة تكرر مع نظام الأسد.  
وبما أننا لم نشكل حالة وعي حقيقي وعميق للتعاطي مع ظاهرة الظلم والاستبداد والدكتاتورية، فإننا سنكرر المشهد مرة أُخرى، وربما في سورية نفسها، خاصة أنَّه لا أحد تقريباً ربط بين سجن صيدنايا وسجون الشرع في إدلب، وأيضاً تذكرنا جرائم الأسد وأجهزته الأمنية وبراميله المتفجرة.. ونسينا جرائم النصرة وداعش وأحرار الشام وأنصار الشام... والاغتيالات والتنكيل والتفجيرات الانتحارية وقمعهم للمناطق التي سيطروا عليها!
لنعد قليلاً إلى الوراء، على مدى 15 سنة عاش اللبنانيون أهوال حرب أهلية، قُتل فيها مئات الألوف من المدنيين، فضلاً عن التدمير والتخريب والتشريد.. ماذا فعلنا نحن المقيمون خارج لبنان؟ وقفنا نتفرج ونراقب، وكلٌ منا اصطف إلى جانب جماعته، لاعناً كل الأطراف الأخرى! متمنياً لهم الجحيم! وعلى مدى 13 عاماً عاش العراقيون حربين طاحنتين بينهما حصار خانق، ثم دخلوا حرباً أهلية، وقد وصل عدد القتلى نحو مليون إنسان، وأضعافهم من المشردين والنازحين واللاجئين.. أيضاً وقفنا سلبيين، وقد اصطف كل واحد منا مع طائفته وحزبه.. في السودان نشبت حرب أهلية منذ نحو سنتين، قُتل وجرح وشرد الملايين.. والأمثلة كثيرة.. ما يجمع بينها أننا ننحاز في كل مرة إلى «جماعتنا» و»طائفتنا»، و»حزبنا» و»قائدنا البطل».. وننسى ونتجاهل عذابات الآخرين وآلامهم.. نتجاهل أن «الإنسان» هو المسحوق والمظلوم، وننشغل بتحليلات خبراء «الجزيرة» ومشاهير الفضائيات.
نغفل قضية الإنسان، أو نفهمها بشكل مشوّه، بدليل أننا نرفض الظلم والاستبداد حين يكون مصدره خصمنا وعدونا، ونقبل به ونبرره حين يكون مصدره «جماعتنا» وقائدنا البطل! لا نرفض الظلم لكونه ظلماً بحد ذاته، بل لأننا تضررنا منه بشكل شخصي. نرفض الفساد ليس لأنه خطأ وجريمة ومسلك مشين، بل لأننا تضررنا منه، وسنقبل به، أو نمارسه حين تُتاح لنا فرصة الاستفادة منه.. نرفض البلطجة والتشبيح والزعرنة والفتوّة حين تمس أمننا الشخصي، ونتغاضى عنها ونشجّعها حين نستفيد منها، أو على الأقل حين تكون بعيدة عنا.
ولأننا أغفلنا قضية الإنسان، لم نتعاطف سابقاً مع مأساة لبنان، ولا مع محنة العراق، ولا مع فاجعة سورية، ولا مع كارثة السودان، ولا مع قضية الأكراد والأمازيغ والأرمن، وسائر قضايا المظلومين في أنحاء المعمورة، (باستثناء التفاعل اللفظي والعاطفي، أو لدوافع طائفية وسياسية).. لذا كان متوقعاً ضَعف التفاعل الإنساني مع نكبة فلسطين وفاجعة غزة وما تتعرض له من حرب إبادة وتطهير وتهجير وتدمير.. مرة ثانية، كلٌ منا تفاعل وتجاوب مع رؤيته السياسية الخاصة واصطف إلى جانب جماعته، وتجاهل المأساة الإنسانية لمليونَي غزي يقيمون في الخيام.
قبل ذلك تجاهلنا مأساة فلسطينيي العراق الذين نزحوا إلى مخيم التنف في قلب الصحراء مدة عشر سنوات كاملة، نسيناها كلياً، ونسينا من طردهم من بيوتهم.. كما نسينا تل الزعتر، وبرج البراجنة (حرب المخيمات التي شنها نظام الأسد)، وصبرا وشاتيلا ومخيم اليرموك، ومذبحة حي التضامن.. وكما نسيناها بدأنا نتعود على مشاهد المذابح في غزة، وقد نسينا بالفعل الكثير منها.. مركّزين انتباهنا على مشاهد استهداف الدبابات وقصص قنص جندي هنا، وكمين محكم هناك.
أيّ ثورة، أو مقاومة، أو دولة لا تكون قضية الإنسان جوهرها وغايتها، ستكون مجرد عنف سياسي أو طمع بالسلطة ونزوع نحو الاستبداد. الوعي السياسي مهم، ووجود نظرية ثورية مهم، وصياغة إستراتيجية شاملة وخطط بعيدة الأمد، مع وضوح في الرؤية وتحديد دقيق للأهداف، وصياغة واعية للخطاب الإعلامي، وخط سياسي وطني وواقعي.. كل هذا مهم وضروري، لكن الأهم أن يُبنى كل ذلك على قاعدة أن الإنسان أولاً وأخيراً.. والإنسانية لا تتجزأ، كما هي الأخلاق.