وعد بلفور الثاني

24qpt998
حجم الخط

يكتب الدكتور سلمان أبو سته في كتابه الموسوعي الرائع (أطلس فلسطين): (في اليوم التالي لعبور القائد العسكري البريطاني أللنبي أرض فلسطين من الجنوب، مجتاحاً تحصينات جيش الدولة العثمانية في بئر السبع، وصلت برقية تحمل أخبار ذلك الانتصار إلى لندن، فأخرج وزير الخارجة البريطاني ورقة من درج مكتبه وكتب إعلانه، أو وعده، الذي بات يعرف منذ ذلك الحين بوعد بلفور). 
وها هي بعد مائة عام بالتمام، تطرح الحكومة البريطانية مشروع قانون لمنع أي مقاطعة للبضائع والمؤسسات الإسرائيلية، وكأن الحكومة البريطانية، بدل أن تعتذر عن الظلم الذي ألحقته بالشعب الفلسطيني، تصرّ على دعم وعد بلفور القديم بوعد بلفور جديد.
مائة عام كاملة، مائة عام من الاحتلال والدمار والقتل والمطاردة والمنافي ومئات الآلاف من السجناء الفلسطينيين ومثلهم من الشهداء والبيوت، بعد مائة عاـم يدور دولاب السياسة البريطانية الأعمى، ليؤكد ثانية إصرارها على تكرار ارتكاب الجريمة.
لقد منح بلفور في ذلك الزمان وطن الفلسطينيين لسواهم، مدفوعاً بتوحّش إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس وغطرستها، ورغم أن كل دول العالم قد أعادت النظر، رسمياً وشعبياً، بدرجة أو بأخرى، في ذلك الوحش الذي احتضنته حكومة صاحب الجلالة، حين تبين أنه صورة دقيقة لفاشيات ونازيات ذهبت إلى غير رجعة، تجيء الحكومة البريطانية اليوم لتقف ثانية لتكرر عماها وغطرستها وتؤكد ثانية تصميمها على حماية وحشها الوليد الذي استطاع أن يحقق، منذ إعلان شهادة ميلاده، إنجازات لا تقل عن إنجازات الفاشيات الكبرى، في ارتكابه للمذابح وفي تحالفه مع كل قوى الشر المتربصة بأحلام الشعوب، وفي قدرته على رفع سقف العنصرية ضد كل البشر، وفي جرّه للدين اليهودي يوماً بعد يوم، نحو دائرته، ليكون واحداً من مكونات العنصرية، كما لو أن بروتوكولات الكراهية الأرضية لا تكفيه.
لقد علّمتنا دروس التاريخ، أن الفاشيات الكبرى فعلت ذلك دائماً، فحين لا تمنحها قوانين الأرض الحق كاملاً في إبادة البشر واستعمارهم وتسخيرهم عبيداً لها، فإنها تمضي مباشرة لتزوير السماء، وليّ أعناق وصايا الرحمة نحو الهمجية، والعدل نحو الاستبداد، والكرامة والحرية نحو العبودية، والسلام نحو الحروب المفتوحة…، وليس هنالك من كيان حديث مثل إسرائيل يتقن ذلك، تحرسه وترعاه أكثر إمبراطوريات العالم ادعاء للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، من أمريكا حتى بريطانيا.
إن أكثر ما يثير الدهشة هو استمرار تشبث بريطانيا بعماها القديم، وكأن مائة سنة لم تكشف للبشر في هذا العالم حقيقة نازية هذا الكيان المصطنع؛ وإذا ما كانت قد استندت في وعدها القديم على معادلات القوة والنصر والجيوش الطليقة لاجتياح البلدان وإخضاعها، وتوزيعها بينها وبين حلفائها، كما لو أن تلك البلدان/ الهدايا، جزء آخر من أكذوبة (شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب) وهو مفهوم استعماري لم يستند إليه المستعمرون في فلسطين، بل في كل أرض اجتاحتها قواتهم، قديماً وحديثاً.
تطلق بريطانيا مشروع قرارها، كما لو أن العالم لم يزل مُلكها، كما لو أنه مستعمرات لم تزل مجبرة على تقبيل أعتابها. وليس هذا فقط، بل إنها تتجاوز بمشروع قرارها كل ما هو خارجها وصولاً لوعي بريطانيٍّ نما خلال مائة عام وأصبح شاهداً شجاعاً على جرائم حكومته، ليس في فلسطين وحدها، بل في كل مكان سرقت فيه الإمبراطورية شموس أوطان الشعوب المستعمرة لتضاعف حجم شمسها.
تتعامى الحكومة البريطانية حين تتجاهل أن أهم حركة مقاطعة للكيان الصهيوني لبّت نداء المقاطعة الذي انطلق في فلسطين، هي حركة المقاطعة البريطانية، التي لم يتردد في الانضمام إليها أساتذة جامعات وفنانون ومفكرون ونقابات وشركات وبلديات ومراكز بحوث وشركات، وآخر قرارات المقاطعة البريطانية الشجاعة للكيان الصهيوني كما جاء في تقرير حركة المقاطعة: (تصويت 73 ٪ من أساتذة وطلبة وعاملي كلية الدراسات الشرقية والأفريقية(SOAS) في جامعة لندن لصالح مقاطعة إسرائيل أكاديميا. كما صوت 68 ٪ من طلبة جامعة Sussex لمقاطعة الكيان الصهيوني أيضا، وتبنّى أكثر من ألف فنان وكاتب بريطاني مقاطعة إسرائيل، وقبلهم آلاف الأكاديميين والفنانين في إسبانيا وآيرلندا وجنوب أفريقيا. كما تعهد مؤخرًا أكثر من 600 أكاديمي بريطاني حتى الآن بمقاطعة إسرائيل والالتزام بنداء المجتمع الفلسطيني للمقاطعة. 
.. وتتعامل الحكومة البريطانية مع (رعاياها) كواحدة من أعتى الديكتاتوريات التي تقول إنها تحاربها، حيث يشكل مشروع قانونها العنصري اعتداءً سافراً على حريات مواطنيها في اتخاذ القرارات التي يرونها معبرة عن ضمائرهم ووعيهم وحسّهم، ليس هذا فحسب، بل لأن مشروع قرار كهذا سيتحوّل إلى قانون للعقاب العام، يطال قطاع التعليم، بعثاتٍ وأبحاثاً وتوظيفاً، وقطاع الصحة، كما سيطال كل مؤسسة أو فرد يقرر استخدام عقله وقيمه الإنسانية للتعبير عن أفكاره، في وقت تقرر فيه حكومته أن شعبها ليس سوى قطيع عليه الالتزام بالمسار الذي يحدده الراعي وكلابه.
.. وتتصرف الحكومة البريطانية اليوم كما لو أنها لم تزل مركز الكون، وكما لو أن العالم كله تحت إمرتها، وكأنها إن حاصرت حركة المقاطعة داخلياً، ولن تستطيع أن تفعل ذلك، فإنها ستحاصر حركة المقاطعة التي أكدت حضورها القوي في الاحتفالات التي شملت مائة وخمسين عاصمة ومدينة في العالم قبل أشهر، وتحاصر أكاديميي بلجيكا وإسبانيا وفرنسا وأمريكا، والاتحادات العمالية والشعبية في كندا وأمريكا اللاتينية وأوروبا، ومهرجانات الأفلام والمؤتمرات الثقافية في العالم، وصولاً إلى قرارات شجاعة بدأ بعض الكتاب اتخاذها برفض ترجمة أعمالهم إلى العبرية؛ ولكن ذلك كله لا يمنعنا من أن نرى أن الصهيونية قد حققت نجاحاً كبيراً بظهور مشروع هذا القانون.
عالم يتفتح، وشموس ضمائره تزداد تألقاً وسطوعاً، وحكومة عمياء تتحسس جثث الضحايا وقضبان السجون وبنادق الجنود الصهاينة وصلادة وغطرسة حائط العنصريين وبيوتنا المهدمة، وتهتف: ما أرقّ الأرض!

وبعد، (كابوس الجنرال):
أيها العسكريُّ 
صرختُ.. صحوتُ 
وبي فَزَعٌ وارتجافٌ وحُمّى
حلمتُ بوردةْ!!
تشقُّ الفضاءَ هنا تحت رأسي
وتنمو ببطءٍ 
وتكبرُ.. تكبرُ.. عبرَ المخدَّةْ!