في كتابه «وعاظ السلاطين»، يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي: «مشكلة الواعظين أنهم لم يدركوا طبيعة البشر على حقيقتها، وعزوا لهم صفات ملائكية هم منها براء، وطالبوهم بما لا طاقة لهم به، ونصحوهم بما يتناقض مع فطرتهم، وأمروهم أن ينـزعوا عنهم ثوبهم الآدمي ويتقمصوا ثوباً آخر لا وجود له إلا في عالم الأحلام والمطلق والمثاليات». ويضيف: «حين نعِظُ أي إنسان لا نؤثر إلا في عقله الظاهر فقط، لأنَّ عقله الباطن مشغول بما يوحي إليه العرف الاجتماعي من قيم واعتبارات، أما عقله الظاهر فقد امتلأ بهذه المواعظ منذ صغره، ولكنه لا يتأثر بها ما دامت معاكسة لقيم العرف الاجتماعي التي نشأ عليها، ومعاكسة لطبيعته الآدمية، وهنا ستنشأ الازدواجية وتنشق الشخصية إلى شقَّين: أحدهما يخصص لسماع المواعظ وترديدها، فيما يبقى الشق الآخر حراً للجري وراء أهداف الحياة».
أي أنّ «الكبار» ملؤوا رؤوسنا بمواعظهم الكثيرة، وحددوا لنا معايير أخلاقية لا قِبل لنا بها، ولا تتناسب مع طبيعتنا الإنسانية؛ فالإنسان يحب الدنيا من أعماق قلبه ويود الاغتراف منها بكلتا يديه، ويتشبث بالحياة إلى أبعد الحدود، وهذه صفة طبيعية ونزعة بشرية لا جدال فيها، بينما يأتي الواعظون فيحضونه على ترك الدنيا والزهد فيها والترفع عن ملذاتها.
والإنسان بطبيعته خطّاء؛ قلبه هش، اشتياقاته وهواجسه كثيرة، ومخاوفه أكثر وأكبر، قد يضعف، أو يخاف، أو ينحّي عقله جانباً مستجيباً لنوازعه المادية ومتطلباته الجسدية، أو لأنَّ أحد جيناته البدائية نهضت فجأة، وقد يصغر أمام نداءات معدته، وتحفز هرموناته الجنسية، وقد يضطر للانحناء في وجه عاصفة عاتية، وقد تنهار روحه تحت وطأة الضغوط.
والإنسان عبارة عن تشابك معقد من الدارات الكهربائية، ونتاج سلسلة من التفاعلات الكيميائية، وانعكاس لتوفر أو انخفاض منسوب بعض الهرمونات التي تحدد طبيعة مزاجه، ومدى نشاطه، ومقدار تحمّله، وإلى أي مدى يتحمس ويذهب في انفعالاته.. وهذه كلها تجري دون علمه غالباً، ودون إرادته أحياناً، وقد لا يستطيع التحكم بها في معظم الأحيان.
وهو أيضاً نتاج بيئة وُجد فيها دون إذنه، ومحصلة عملية تربية وتعليم ممنهجَين كان خلالهما مجرد متلقٍّ، وهو ابن ثقافة أنتجها له الآخرون، وواقع اقتصادي اجتماعي فُرض عليه.
ومع كل ذلك، يمتلك الإنسان وعياً وذكاء كافيَّين لرسم معالم حياته وشق مساراتها، وتحديد هدفه، وكيفية تعامله مع نفسه ومع الناس، وكيفية تفاعله في محيطه الاجتماعي.. أحياناً تكون مساهمته في بناء شخصيته وصناعة حاضره ومستقبله كبيرة جداً، وأحياناً بقدر بالغ الضآلة.
والحياة التي نعيشها صعبة ومعقدة بشكل مرهق، وفيها ما يكفي من التحديات والمشاكل والهموم والأوجاع والأحزان.. ولكلٍّ منا همّه، ومخاوفه، وأسباب قلقه، ونقاط ضعفه.. لكلٍّ منا سره الخاص، وذكرياته العزيزة، أو التي تعذبه، ومواقف محرجة يحاول نسيانها.. ومع ذلك نكابر، ونتحايل على أنفسنا، ونحاول دائماً الظهور بأفضل صورة، وندّعي أننا أقوياء، وأننا لم نقترف خطأً واحداً.. أو نبرر لأنفسنا تلك الأخطاء.
نخجل أن نظهر ضعفنا، وكثيراً ما نقمع انفعالاتنا، ونكبت عواطفنا، ونحبس دموعنا خاصة أمام الغير.
صحيح أن الإنسان مطلوب منه ضبط غرائزه، والتحكم في انفعالاته، وتنظيم احتياجاته الجسدية والنفسية، لكن للكبت تداعيات صحية سلبية وخطيرة.. وصحيح أن الأخلاق مهمة، وهي أهم سمات الإنسان، وما يميزه عن الحيوان، وأنَّ القيم الاجتماعية ضرورية لتنظيم الحياة والارتقاء بها، لكن المعايير الصارمة التي نضعها على أنفسنا، أو تلك التي حددتها الأيديولوجيات والأديان، والقيود التي يفرضها المجتمع، خلقت شيئاً اسمه النفاق، وازدواج الشخصية، وأوجدت الكثير من الأمراض النفسية.
كل واحد منا اقترف أخطاء فادحة، وراهن على حسابات خاطئة، أو جَبُن في لحظة ما، أو مارس الأنانية، أو الكذب، أو استغاب صديقه، أو خذل نفسه وخذل الآخرين، أو وجد نفسه منقاداً للقطيع بلا إرادة.. ولكننا ندعي غير ذلك.. بعضنا يعيش بضمير مؤنب معذب، ولا يسامح نفسه على خطأ ارتكبه قبل سنين بعيدة، وبعضنا بلا ضمير.
ستتعب كثيراً إذا واصلت بحثك عن الكمال، وأبشّرك بأنك لن تصل.. وستكذب كثيراً حتى تظهر بالصورة المثالية التي يريدها لك المجتمع.. وستفشل حتماً إذا كان هدفك إرضاء كل الناس. وستضيّع وقتك وجهدك في كتب التنمية البشرية، والاستماع للمواعظ؛ لأنك ستظل أسير طبيعتك البشرية الضعيفة والهشّة.
اقبل بنقصك، سامح نفسك على أخطائك، وسامح غيرك على ما اقترفوه بحقك.. إذا جربت ذلك ستنال السكينة وستصل إلى الرضا، والتصالح مع الذات.. وستدرك حينها أن الحياة ممكن أن تكون أكثر بساطة، وأحلى.
ما تحتاجه أن تتخفف من أحمالك الثقيلة، وأن تتحرر من قيودك وأوهامك، وأن تتصرف على سجيّتك، بلا تحفظات.
وفي هذا السياق، أحببتُ ما كتبه الصديق أسامة الأسمر: «أحياناً، أحب في الناس آثامهم النحيلة.. أحب كذباتهم الصغيرة للمرور من موقف محرج.. أحب غضبهم الذي ينفجر بلا سبب ولكنه ضروري للحفاظ على توازن منشود بعد هدوء طويل متواطَأ عليه.. أحب تبرمهم وسخطهم من الحياة بعد إقامة طويلة في الرضا والسلامة والمشي الحيط الحيط.. أحب هروبهم من المسؤوليات تحايلاً على «سيستم» طحن أيامهم بالاكتراث للآخرين من الأحباب والأوغاد.. أحب سرقاتهم الضئيلة فهم يستحقون أحياناً «رزقاً» بلا تعب أو تعتير... أحب خيانتهم لمبادئهم التي توهموا طويلاً أنها صليب الغفران عن آثام لم يقترفوها.. أحب حتى أولئك الذين يصلّون بلا وضوء عندما يحين وقت صلاة الجماعة أثناء دعوة غداء.. وأحب الذين يتحمسون لرواية قصصهم التي لم تحدث لهم.. أحب الراسبين في «التوجيهي» وأولئك الذين مزقوا كتبهم آخر يوم في الامتحانات وتوجهوا نحو سينما الخيّام.. وأحب الذين يدّعون الصيام في رمضان ويحرصون على تناول السحور مع العائلة.. أحب الفاشلين الضاحكين بامتياز على أصحاب «من جد وجد»، و»من طلب العلا سهر الليالي»، وأحب المصابين فجأة بالكسل فلطالما قاموا «بكّير» ولم يفعلوا شيئاً.. فلم العجلة؟! ربنا نرجوك ألا تأخذنا على محمل الجد، فنحن جميعاً قصتنا مع الحياة ومع الناس عويصة».