مرةً أخرى يعود الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب للحديث عن جزيرة غرينلاند وفكرة الاستحواذ عليها إما بالشراء أو عبر الضغط الاقتصادي، مع أنه حاول في ولايته الأولى شراءها من الدنمارك قبل أكثر من خمسة أعوام وفشل في مسعاه.
في العام 2019 طرح ترامب فكرة شراء الجزيرة التي تعتبر أكبر الجزر في العالم بمساحة تزيد على 2 مليون كيلومتر مربع، وعلى الرغم من أنه لم يحقق مراده بالحصول عليها، إلا أنه أعاد طرح الفكرة في شهر كانون الأول 2024.
ما الذي يجعل ترامب يفكر بشكل جدي في السيطرة على غرينلاند وهل هذا حلمه أم سبقه أحد من الرؤساء الأميركيين في هذه الفكرة؟ ولماذا يعتقد أن الجزيرة مهمة للأمن القومي الأميركي؟ وما سر وجود أهم القواعد العسكرية الأميركية فيها؟
للإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي في البداية التذكير أن واشنطن عززت وجودها العسكري في غرينلاند خلال الحرب العالمية الثانية وتحديداً في العام 1941 بهدف صد التمدد النازي، وبقيت القاعدة العسكرية حتى بعد انتهاء هذه الحرب لمنع أي تمدد شيوعي في غرب المحيط المتجمد الشمالي.
في ذلك الوقت لم تكن غرينلاند محور الصراع العالمي في القطب الشمالي، ربما بسبب كثافة محاور الصراع في جبهات مختلفة من العالم، إلى جانب أنها كتلة من الجليد تغطي أكثر من 80% من مساحة الجزيرة، وفي ذلك الوقت لم يتم اكتشاف كل ثرواتها الباطنية.
في العام 1946 مباشرةً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عرضت إدارة الرئيس الأميركي هاري ترومان على حكومة الدنمارك التي كانت تحكم الجزيرة شراءها مقابل 100 مليون دولار، غير أن كوبنهاغن رفضت العرض الأميركي واكتفت ببقاء الوجود العسكري في الجزيرة لحمايتها وحماية دول الاتحاد الأوروبي من توسع النفوذ السوفيتي آنذاك.
كان يمكن لترومان في ذلك الوقت الضغط لشراء غرينلاند أو السيطرة عليها، في وقت كانت فيه دول أوروبا الغربية في حالة ضعفين اقتصادي وعسكري بعد الحرب العالمية الثانية، وديون كبيرة قدمتها واشنطن لتلك الدول حتى تستعيد عافيتها، لكن لم تكن الجزيرة بذلك القدر من الاهتمام بالنسبة للإدارة الأميركية آنذاك.
اليوم غرينلاند تعتبر محور الصراع العالمي في القطب الشمالي بين الولايات المتحدة الأميركية والصين تحديداً، حيث بدأت الأولى تدرك أن بكين تسعى لإيجاد موطئ قدم في الجزيرة منذ سنوات، سواء عبر عروض شراء قاعدة عسكرية مهجورة فيها أو عن طريق ضخ استثمارات هائلة وتمكينها اقتصادياً بالمال الصيني.
في العام 2018 صدّرت الصين استراتيجيتها للقطب الشمالي، وتتمحور حول إيجاد ممرات مائية وبناء طريق الحرير القطبي الذي يربط تجارياً بين آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية، وجزيرة غرينلاند تمتلك موقعاً استراتيجياً يربط بين أوروبا وأميركا الشمالية والمحيط المتجمد الشمالي والمحيط الأطلسي.
التحرك الصيني الخفي أو الهادئ يفسر لماذا يصر ترامب على شراء غرينلاند أو السيطرة عليها، أضف إلى ذلك ما تمتلكه من ثروات هائلة واحتياطيات من العناصر الأرضية الثمينة تقدر بحوالي ثلث ما تمتلكه الكرة الأرضية من معادن وموارد تتجاوز 120 مليون طن.
ربما لن يتمكن الرئيس الأميركي المنتخب من شراء غرينلاند بسبب موقف الدنمارك الرافض من فكرة الشراء، إلى جانب سكان الجزيرة الذين يرفضون الفكرة من الأساس، لكن ستفعل واشنطن المستحيل من أجل تعزيز وجودها العسكري هناك، والأهم ضخ مليارات الدولارات للاستثمار في الجزيرة.
مع وجود موطئ قدم عسكري أميركي في الجزيرة والاستثمار فيها، قد تصل الولايات المتحدة إلى صيغة تفاهم مع الدنمارك وسكان الجزيرة للاستفادة من مواردها الطبيعية، لكن الأهم من كل ذلك أن واشنطن تريد قطع الطريق أمام الصين لمنع توسيع نفوذها في المحيط المتجمد الشمالي.
لا يمكن التنبؤ بما يدور في رأس ترامب، لكنه بالتأكيد سيمارس ضغوطاً سياسية واقتصادية للاستيلاء على غرينلاند، مدفوعاً بشغف رجل الأعمال الذي بداخله والذي يشجعه على عقد الصفقات والاحتفاء بالإنجازات الكبيرة، وسيحاول ابتزاز دول الاتحاد الأوروبي للحصول على غرينلاند.
الأخطر من كل ذلك، أن فترة ولاية ترامب ستشهد سباقاً محموماً مع الصين تحديداً في المحيط المتجمد الشمالي وبحر الصين الجنوبي، وبكين ستسعى بالقوة الاقتصادية الناعمة إلى فتح ممرات تجارية لتعزيز وجودها الاقتصادي.
بصراحته وصوته العالي عن ضم غرينلاند وكندا وقناة بنما، يكشف ترامب عن استراتيجية الولايات المتحدة لتوسيع نفوذها في العالم وسعيها للبقاء على رأس النظام الدولي، والعمل الحثيث لتطويق الصين وروسيا بالأدوات السياسية والعسكرية والاقتصادية.