لبنان على الطريق الصحيح

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

الكاتب: عاطف أبو سيف


 

أخيراً تم حسم الجدل في لبنان باختيار مجلس النواب للعماد جوزيف عون رئيساً للبلاد بعد شغور الموقع لسنتين؛ وبذلك عادت لبنان إلى السكة السليمة بعد أن تناوشتها القوى الخارجية، وأعاقت تطور الدولة فيها. وبالطبع لا يمكن فهم ما جرى دون التوقف عند «انحسار» حزب الله وسقوط نظام الأسد والانكفاء الإيراني بعد أن لاح للمرشد أن أي حرب مع إسرائيل لا يمكن أن تخوضها إيران، يمكن لوكلائها أن يفعلوا ذلك، أما طهران فلا، لأن هذه مجازفة لا تستحق أكثر من بلاغة الخطاب والمنابر. أخيراً تم اختيار رئيس للبنان بعد عسر شل البلاد وأعاقها في الكثير من الجوانب.
لا شيء خطأ في المقاومة، ولكن الأساس أن تقاوم من أجل بلادك وليس نيابة عن الآخرين، وأن لا يتم توظيف مقاومتك حتى لو كانت سليمة وقويمة لصالح سياسات دول أخرى. في السياقين الفلسطيني واللبناني كان هذا هو الحال في العقود الثلاثة الأخيرة، حين تم ترجمة تطلعات القيادة  الإيرانية لكسب المزيد من الشرعية في نظر مؤيديها من خلال قتال «العدو الصهيوني»، بحيث لا يتم مثل هذا القتال بشكل مباشر، بل يقوم به آخرون ويتم ضخ المال والعتاد لهم من أجل القيام بذلك. وبالطبع فإنه في كل الأحوال يجب مقاومة الاحتلال وعدم التسليم بوجوده، ولكن هذا يجب أن يتم في سبيل تحرير البلاد، لا من أجل تعزيز نفوذ قوى خارجية على حساب معاناة الشعب ومقدراته. وعليه فإن التفاهم الوطني العام على السياسات العريضة القويمة فيما يتعلق بمصلحة لبنان العليا، يجب أن يكون بوصلة النقاش الداخلي الذي يجب أن يقوده الرئيس اللبناني من أجل إعادة الاعتبار لفكرة «الكل اللبناني». وبقدر حقيقة أن فسيفساء المجتمع اللبناني ميزة أساسية، بقدر الحاجة لأن تشكل هذه الفسيفساء لوحة متكاملة وجميلة تعيد للبنان مكانته ودوره الفاعل والحيوي في الثقافة والسياسة العربيتين. لبنان التي كان لها دور كبير في نهضة الثقافة العربية وفي الفعالية السياسية العربية، بحاجة لأن تستعيد عافيتها وتعود لها الحال بعد أن مزقها التجاذب الخارجي، وبعد أن كبلها الوجود السوري العسكري والأمني.
من المؤكد أن أمام الرئيس اللبناني الجديد مهام كثيرة تتعلق بالجبهتين الداخلية والخارجية بعد أن أخذتهما التجاذبات الإقليمية كل مأخذ، وبعد أن مزقتها مصالح الآخرين على حساب مصلحتها الوطنية. والمؤكد أن هذا يجب أن يتم بالتشاور مع كل أطياف قوس قزح السياسة اللبنانية التي تعكس التوازنات المختلفة، ولكن أيضاً على أساس مصالح وطنية بحتة. وبقدر ما تبدو الطريق صعبة ووعرة بقدر ما يمكن أن يكون تحقيق هذا سهلاً. فمن جهة فإن ترسبات المرحلة السابقة ستظل عالقة ولن يكون زوالها سهلاً، ومن جهة ثانية فإن المرحلة الحرجة التي تم فيها تعطيل السياسة في البلاد، وتعطيل البرلمان والتراجع المهول في الاقتصاد، بل انهياره الشامل، من شأنها أن تكون حافزاً امام المزيد من النقاش الوطني في سبيل وضع سياسات وطنية تسير  بالبلاد إلى الوجهة الصحيحة.
إن تعميق الإحساس بالمسؤولية سيكون مشجعاً من أجل استكمال عملية الخروج من عنق الزجاجة. إن أصعب المراحل هي اللحظات الأولى في العادة، لأنها تحمل معها رواسب وعوالق المرحلة السابقة. كما أن المناخات الإقليمية والدولية تبدو مشجعة. التحولات الكبرى التي هزت المنطقة العام الماضي، والتي كان أهمها هروب نظام الأسد ورفع يده بالتالي عن لبنان، وقرار إيران بالانكفاء وانحسار دور حزب الله، وتوجهات الدولة اللبنانية لفرض سيطرتها على الجنوب بعد موافقة حزب الله بالانسحاب إلى شمال الليطاني، بعد الانهيار الكبير الذي شهدته قدراته باغتيال معظم قيادات الصف الأول والثاني في الحزب بأسبوع واحد، كل ذلك يترك الأمر بيد الدولة اللبنانية من أجل إعادة الاعتبار لوجودها المهمش من سنوات. وربما الأهم من كل ذلك فإن ثمة فرصة تاريخية أمام الرئيس الجديد لتطوير سياسات لبنانية صرفة تكون وجهة الكل اللبناني، إذ لا يجوز ان يكون لكل حزب وتنظيم سياسة خارجية وحلفاء له وحده، وإن كان هذا التحالف على حساب الدولة. لا يمكن لأي تنظيم أن يكون له حلفاء غير حلفاء الدولة نفسها. للأسف فقط في الحالتين الفلسطينية واللبنانية يوجد مثل هذه الحالات. عموماً فإن توحيد السياسة الخارجية سيكون انعكاساً لقوة ووحدة الساحة الداخلية، وما لم يتم تحقيق الأخيرة فإنه سيكون من المتعذر صوغ وتطبيق توجهات سياسية خارجية موحدة.
وعليه، فإن الأهم هو تصويب مسار السياسة اللبنانية حتى تعود سياسة اللبنانيين وحدهم؛ بمعنى تحريرها من الارتباطات الخارجية التي سرقت هويتها وشوهت مسارها. هذه مهمة صعبة ومعقدة ولكنها ممكنة. وأيضاً في ذلك يجب الانتباه الى أن هذا لا يجب أن يفهم من جهة أن يتم تحقيق انقلاب على توجهات لبنان التاريخية مثلاً فيما يتعلق بالصراع مع العدو المركزي للأمة العربية وبالعلاقة مع المحتل. وربما آخر من يجب أن يقال له ذلك هو لبنان الشريك الأساس في كفاح الشعب الفلسطيني، والذي قدم آلاف الشهداء في الثورة الفلسطينية وفي الدفاع عن الأمة العربية. وعليه فإن جوهر هذه السياسة لا بد أن تقودها لبنان وتصوغ سياساتها لبنان.
طوال عقود واجه بناء الدولة في لبنان كما في دول عربية عدة مجموعةً من الصعاب، تمثلت في قدرة الدولة على ممارسة مهمتها الملحة التي يتم نسبها لها، والمتمثلة في «احتكار العنف المشروع» بكلمات ماكس فيبر، وفي قدرتها على أن تكون مزودة الخدمات ودافعة ورافعة الرخاء والتقدم الاقتصادي لمواطنيها. ثمة فرصة ثانية دائماً وربما ثالثة ولكن أيضاً حتى الفرص بحاجة لأن تتحقق حتى تصبح فرصة وليس مجرد سياق ظرفي طارئ.