كلّما اقتربت الأطراف والوسطاء من موعد تنصيب الرئيس المنتخب دونالد ترامب، ارتفعت نبرة التفاؤل لدى الجميع، بأنّ الفرصة تقترب من التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزّة.
إدارة بايدن، ومبعوثوه إلى الشرق الأوسط يكثرون من التفاؤل بأن تحصل على "جائزة" الفوز بإتمام الصفقة لكي ينظّفوا بعضاً من سجلّهم الأسود، عسى أن يساعد الحزب الديمقراطي على إعادة لملمة صفوفه، وبعض الأمل في استعادة بناء الثقة مع الجاليات الإسلامية والعربية التي امتنعت عن تقديم دعمها للمرشّحة الخاسرة كامالا هاريس.
في الدولة العبرية ترتفع التوقعات بشأن إمكانية التوصل إلى اتفاق إذ يبدو أنّ بنيامين نتنياهو فقد القدرة على المناورة، وإضاعة المزيد من الوقت لكي يواصل حربه على الفلسطينيين، ذلك أنّ التحذير الذي كرّر إطلاقه ترامب، ينطوي على غموض، إزاء الجهة التي سيقع عليها غضبه، ومع أنّ الولايات المتحدة الأميركية، بإدارتيها الراحلة والقادمة تواصل اتهام حركة حماس بالمسؤولية عن التعطيل، كما لو أنها هي التي ستتعرض لجحيم ترامب، إلّا أنّ الإدارتين تدركان أكثر مما يدرك أي طرف آخر، أنّ المسؤولية تقع على عاتق إسرائيل وأنّ "حماس" أخلت طرفها، بعد أن أبدت مرونة عالية.
الوسطاء العرب، وتركيا، لهم دور مهم في إقناع الإدارتين، الأميركية بأن دولة الاحتلال هي مسؤولة عن التعطيل، خصوصاً أن مصادر إسرائيلية متعدّدة، بما في ذلك في أوساط الجيش، والأجهزة الأمنية لا تتوقف عن اتهام المستوى السياسي، ونتنياهو خصوصاً بأنه من يخترع شروطاً جديدة كلما اقتربت الأمور من الاتفاق.
والحال أن نتنياهو، وفريقه، يدركون ما تدركه أميركا والوسطاء بشأن عدم رغبته في وقف الحرب. وفي دولة الاحتلال تتعالى وتتزايد الأصوات التي تعترف بأن الحرب على قطاع غزة استنفدت أغراضها، وأنها بلا أهداف واضحة، وأن الجيش يدفع أثماناً باهظة من دون جدوى.
وفي حين يؤكد "اليمينيون" أن انخراطهم المتزايد في الحرب مرهون بوقفها على قطاع غزة، فإنّ الموقف "اليميني" يضع نتنياهو في الزاوية، بما أنه يفقده المبرّر لاستمرار الحرب التي تريد أميركا وحلفاؤها الأجانب والعرب وقفها.
إذا كان وقف الحروب كما يريد ترامب، هو بداية الطريق نحو سقوط نتنياهو وائتلافه الحكومي الفاشي، فمن المؤكد أن الأخير سيبحث عن جبهة يستهدفها لضمان استمراره.
أربع جبهات مرشّحة هي:
1) الضفة الغربية، التي تصعّد فيها دولة الاحتلال والمستوطنون هجماتهم، ومخطّطاتهم الحربية العدوانية والاستيطانية.
2) لبنان جبهة أخرى مفتوحة على التوقّعات نحو التصعيد، إذ تعلن دولة الاحتلال أنّها قد تتجاوز مهلة الـ60 يوماً، بذريعة عدم التزام "حزب الله" بتنفيذ الشروط الإسرائيلية لإبعاد قوات الحزب خلف الليطاني وسحب أسلحته.
دولة الاحتلال متضرّرة كثيراً من قدرة لبنان على تجاوز أزمة شغور الرئاسة، بعد أن تمّ انتخاب العميد جوزيف عون رئيساً، والذي حظي بدعمٍ واضح من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والسعودية.
من الصعب على دولة الاحتلال تأجيج التناقضات والصراعات الداخلية في لبنان إلى الحدّ الذي يُضعف دور المقاومة، ويُشغلها عن توظيف قدراتها التي تفوق قدرات الجيش اللبناني الرسمي في مواجهة العدوان الإسرائيلي، الذي يترك ألف سببٍ وسبب لاستمرار الصراع.
3) سورية، التي ترى دولة الاحتلال أنها أضعف من أن ترفع وتيرة الصراع، بسبب تعقيدات الأوضاع الداخلية، وتحتل الأخيرة أجزاء من القنيطرة وجبل الشيخ، وتتقدم قواتها الغازية في بعض المناطق الأخرى، وتواصل القصف الذي يستهدف الجيش السوري، ولا يبدو أن إقامتها في تلك المناطق مؤقّتة، خصوصاً إزاء الحذر الأميركي إزاء كيفية التعامل مع "الإدارة السورية الجديدة".
في دولة الاحتلال يرتفع التحذير من أنّ النفوذ التركي في سورية، ليس أقلّ خطراً بل ربّما أشدّ من النفوذ الإيراني الذي أخلى الساحة، وفقد الحدّ الأدنى من التأثير في معادلة الصراع.
4) إيران، فهي الجبهة الأخطر، التي تحظى بتركيز إسرائيلي أميركي، لضرب منشآتها النووية، وتغيير النظام فيها، خصوصاً بعد تسريبات مقصودة، بأنّ إيران تقف على عتبة صناعة قنبلتها النووية.
في هذا السياق نتساءل عن الدوافع التي تقف خلف الحزم الذي يبديه ترامب، لإنجاز صفقة التبادل قبل أن يدخل البيت الأبيض. ثمّة غموض إزاء الإجابة عن هذا السؤال، فمن غير الممكن أن يبني ترامب مثل هذه السياسة الحازمة فقط بسبب حرصه على إطلاق سراح 3 أو 4 أميركيين هم في الغالب مزدوجو الجنسية.
كما أنّ ترامب ليس بحاجة إلى كسب أصوات المسلمين في أميركا، بعد أن حقّق انتصاره الساحق، كما أننا لا نعتقد أنه أكثر حرصاً على حياة الأسرى الإسرائيليين.
في الواقع، بإمكان ترامب الانتظار لما بعد تنصيبه لكي يدّعي أنّه ينفذ وعوده بوقف الحروب، وأوّلها في الشرق الأوسط، خصوصاً أن وقف الحرب في أوكرانيا ينطوي على تعقيدات كبيرة كما يقول.
في كلّ الحالات، سواء وقّع الاتفاق قبل 20 من هذا الشهر أو بعد ذلك بأيام، فإنّ الإنجاز يذهب لترامب، ولن تنال إدارة بايدن من الإنجاز شيئاً بعد أن فشلت لـ15 شهراً.
إدارة بايدن تتحمّل بذات القدر الذي تتحمّله حكومة نتنياهو، الإدارتان اللتان فشلتا في تحقيق أهداف الحرب الإبادية، وتدمير منظومة القيم الدولية. ربّما يكون هذا الفشل، وإنقاذ دولة الاحتلال حيث لم تنجح الإدارة الديمقراطية، هي السبب الرئيس الذي يدفع ترامب لوقف الحرب على القطاع، فهذه بالنسبة له ليست الأولوية، وإنّما إيران.
ثمّ إنّ هذا الفشل، في تحقيق أهداف الحرب العدوانية على غزّة، يشكّل سبباً رئيساً في تعطيل الخطة الأميركية، التي يفضّل ترامب تحقيقها من خلال الصفقات، التي تؤدّي إلى تعميق الهيمنة الأميركية، وتعزيز الدور والنفوذ الإسرائيلي في المنطقة عَبر "اتفاقيات أبراهام" التي أخّرت وخلقت عقبات أمام "التطبيع" مع العربية السعودية ودول أخرى، وإقامة "الحلف السنّي" بإدارة أميركية، وحضور إسرائيلي أفضل مما هي عليه بعد الحرب.