الحرب العدوانية على قطاع غزة في مراحلها الأخيرة، وإذا لم يجر الالتفاف عليها من قبل نتنياهو وجيشه، كما هو حاصل الآن في الجنوب اللبناني، حيث الهدنة هناك بفعل الخروقات الإسرائيلية المتكررة لها، والتي زادت عن 530 خرقاً، تُنظر بأن اتفاق إطلاق النار في طريقه للانهيار، وأن نتنياهو يريد التحلل من هذا الاتفاق، معتمداً على التغيرات الجيواستراتيجية في سوريا، وما يحصل في الداخل اللبناني، فسوريا الآن تحت النفوذ التركي – القطري، ولبنان تحت النفوذ السعودي- المصري – الإماراتي.
هذه الحرب قالت بوضوح إنها لم تكن فقط حرب إسرائيل، بل حرب أمريكا والغرب بأكمله، حيث انخرطوا فيها مباشرة، ودعموا عسكرياً ومالياً، واستنفروا أساطيلهم وحاملات طائراتهم وكل أجهزتهم الاستخبارية والأمنية، ووظفوا كل دبلوماسيتهم واقتصادهم وأموالهم، من أجل الدفاع عن إسرائيل وحمايتها، والتي لولاها لكانت كما قال البعض الإسرائيلي، فإن إسرائيل كانت منذ اليوم الثالث للحرب، تحارب بالحجارة والعصي، الحرب كما قال "مسيلمة" بلينكن الأمريكي لم تنجح في القضاء على المقاومة عسكرياً، وقال إن هزيمة قوى المقاومة تحتاج إلى وسائل أخرى جربتها أمريكا، مثل فرض العقوبات الاقتصادية والمالية والسياسية الشاملة على الدول وحركات المقاومة المستهدفة، كما حصل في سوريا، و"قانون قيصر" لتجويع الشعب السوري، وخطة بومبيو وبربارا ليف في لبنان الخماسية، حصار مالي واقتصادي وفراغ سياسي وأمني يقود إلى حروب أهلية.
المهم هذه الحروب وهذه الحرب العالمية الثالثة، قالت إن دول فقيرة وحركات مقاومة، أفشلت مشاريع ومخططات كبرى، مثل ما تحدث عنه نتنياهو، تغيير وجه الشرق الأوسط، وما تسميه الإدارة الأمريكية بالشرق الأوسط الجديد، وسقطت معها مشاريع ومخططات إسرائيل، خطة الجنرالات في شمال قطاع غزة، عدم الانسحاب من محوري "نتساريم" و"فلادلفيا"، والقضاء على حركة حماس والمقاومة، وتحقيق ما يعرف بالنصر الساحق، وحلم العودة للاستيطان في القطاع.
هذه الحرب التي خاضتها قوى وحركات وشعوب فقيرة في الإمكانيات والقدرات العسكرية والتسليحية، وكبيرة في الشجاعة والإرادة والتصميم، فرضت معادلات وموازين قوى يمكن البناء عليها مستقبلاً، فوقف إطلاق النار، لا في لبنان ولا في قطاع غزة، يتحدث عن نزع سلاح المقاومة، بل عودة للتساكن من جديد مع هذا السلاح على حدود لبنان وعلى حدود القطاع، وهذا يعني أن الصراع مستمر ومتواصل، وهناك مخاطر وجودية قد تتعرض لها إسرائيل، وهي التي سعت في حروبها التدميرية على غزة ولبنان، لمنع العودة مجدداً للتساكن مع قوى مقاومة على حدود مستوطناتها، والشيء المخزي، حالة الفرح والتشفي، عند بعض القوى والأطراف لبنانياً وفلسطينياً، بالقول أن هزيمة كبرى لحقت بحزب الله وحماس، وكذلك كشفت هذه الحرب بأن هناك حالة خذلان وتواطؤ عربي وإسلامي رسمي غير مسبوقة، وقالت بأن العرب الحقيقيين، هم من وقفوا من الشجعان إلى جانب غزة، وكانوا شركاء في الدم، جزء من لبنان وجزء من العراق وجزء من اليمن، وكذلك إيران كانت داعماً وشريكاً، وما دون ذلك وجدنا ناطقين بالعربية وليس بعرب. وتلك الحالة طالت الجماهير العربية والإسلامية، والتي بدت كأنها "مضبوعة"، وظهرت كظل لأنظمتها، والتي ينطبق عليها قول ماركس بالشعوب الرجعية، في حين وجدنا بأن هذه الحرب حملت مفاجآت، كان منها مفاجأة اليمن، اليمن الذي تمكن من فرض معادلات في البحر الأحمر، وتحد غير مسبوق لأمريكا وغطرستها، ونجح اليمن في فرض حصار اقتصادي بحري على موانىء إسرائيل، طيلة فترة الحرب، وبالذات ميناء إيلات "أم الرشراش"، وكذلك أجبر المدمرات وحاملات الطائرات الأمريكية على الهروب أكثر من مرة من البحر الأحمر، بعد أن استهدفها بصواريخه الفرط صوتيه والمسيرات الانقضاضية، وكذلك حزب الله في لبنان، رغم ما تعرض له من حزمة ثلاثية قاتلة في الفترة من 17 -27 أيلول 2023، واغتيال معظم قياداته العسكرية والأمنية وأمينه العام حسن نصر الله ونائبة هاشم صفي الدين، إلا أنه نجح في منع الجيش الإسرائيلي، من تحقيق أي نصر بري، فرغم كل الحشد العسكري الإسرائيلي الذي بلغ خمس فرق وعدة ألوية، لم يتمكنوا من تجاوز الحدود والحافة الحدودية بمئات الأمتار، في حين عام 1982 وصلوا إلى قلب العاصمة بيروت.
ولا ننسى أن الحرب كشفت عن حلفاء للمقاومة على الصعيد العالمي، حيث الحركات الشعبية والجماهيرية، وعلى وجه الخصوص "الانتفاضة" الطالبية التي اجتاحت الجامعات الأمريكية والأوروبية الغربية، والتي كانت تطالب بوقف جرائم الإبادة والتطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني، وتدعو إلى مساءلة ومحاسبة إسرائيل عن تلك الجرائم، والمقاطعة الاقتصادية وسحب الاستثمارات منها، وكذلك حركات المقاطعة والعديد من الدول الصديقة من أمثال جنوب أفريقيا، والتي رفعت على إسرائيل قضية أمام محكمة العدل الدولية، بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وبوليفيا وكولومبيا التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل.
والحرب كما قال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في كلمته خليل الحية أول من أمس "معركة السابع من أكتوبر شكّلت منعطفاً مهماً في تاريخ القضية الفلسطينية"، و"آثارها" لن تتوقّف بانتهائها، وكذلك شدد الحية على أن شعبنا "أفشل أهداف الاحتلال المعلنة والمستترة، واليوم "نثبت أنّ الاحتلال لن يهزم شعبنا ومقاومته أبداً".
من المهم هنا أن تبقى قوى المقاومة يقظة وحذره من مكر وألاعيب نتنياهو وشركائه، ويجب أن يبقى ما حصل ويحصل في لبنان ماثلاً أمام أعين قادة المقاومة، فلا الإسرائيلي ولا الأمريكي ومن خلفهم قوى الغرب الاستعماري، ولا العرب الرسميين، يمكن الوثوق بهم، وربما نتنياهو تحت الضغوط الداخلية الكبيرة التي تعرض لها والضغوط الخارجية وخاصة من الرئيس الأمريكي ترمب، وافق على هذا الاتفاق، ونصب أعينه، أن يسحب ما جرى على جبهة الجنوب اللبناني إلى جبهة غزة، حيث يقوم بتنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، إرضاء لترمب وكذلك من أجل تخفيف الضغوط عليه من قبل أهالي الأسرى والجمهور الإسرائيلي والمؤسستين العسكرية والأمنية، ومن ثم ينقلب على هذا الاتفاق.
واضح أنه بعد إتمام وتنفيذ الاتفاق بمراحله الثلاث، فإن هناك انقسامات كبرى ستشهدها قوى اليمين الإسرائيلي، فالخلافات في جبهة سموتريتش "الصهيونية الدينية" و"جبهة بن غفير" القوة اليهودية" تتصاعد، وكذلك الليكود لم يعد متماسكاً خلف نتنياهو، ومن هنا تبدو الساحة السياسية الإسرائيلية مقبلة على تحولات عميقة وكبرى، وستقف أمام الخيار، إما استمرار الحروب مقابل الخسارة الاستراتيجية المتراكمة إقليمياً ودولياً، أو أمام خيار الدولة الفلسطينية، لانقاذ نفسها من شفا الهاوية التي باتت فيها.