تدخل اليوم التهدئة التي طال انتظارها حيز التنفيذ، إذ بعد قرابة 14 شهراً من التهدئة الأخيرة التي انتهت في مطلع كانون الأول من العام 2023 تتوصل «حماس» وإسرائيل لتهدئة جديدة. التهدئة التي عنت بالنسبة للناس في غزة إيقاف الحرب ولو مؤقتاً، أما سؤال النصر والهزيمة فيدخل في باب المناكفات وعليه فهو ليس بأكثر من نقاش لا يجدي نفعاً؛ على الأقل في هذه اللحظات، إذ إن عين المواطن على فكرة وقف القتل ووقف الإبادة حتى لو كان ذلك مؤقتاً. ومع ذلك فإن «الصفقة» مهمة لأنها أوقفت الإبادة التي تتم بحق شعبنا ولا نملك إلا أن نرحب بها.
وهذا أمر لا يبدو من باب الاستعراض إذ إن كل طرف فعلاً يرى نفسه قد انتصر، فنتنياهو قد انتصر كما يروج لأنه نجح في «خلق» الظروف المواتية للضغط على «حماس» من أجل عقد الصفقة. الصياغات حمّالة أوجه وماكرة. فلولا العمليات الأخيرة التي تم فيها هدم جباليا وبيت حانون وتقليص المنطقة «الآمنة» والإجهاز على كل مقومات الحياة في غزة، فإن «حماس» بالنسبة لنتنياهو ما كانت لتقبل بما كانت ترفضه قبل أشهر، ووقتها لم تكن غزة قد أبيدت عن بكرة أبيها. مثلاً ترحيل الأسرى المفرج عنهم للخارج وبقاء الجيش على أطراف غزة. وأيضاً فإن نتنياهو ظل متمسكاً بحكومته التي صمد فيها في مراحل مختلفة بفضل هذه الحرب التي جاءته هدية من الرب، فلولا الحرب لسقطت حكومته مبكراً. والآن ها هو يدخل مرحلة جديدة لم تستطع حتى المعارضة انتقاده عليها. لقد نجح في «تنشيف» ريق الجميع حتى صار قبوله بالهدنة «تنازلاً» منه لمطالب المعارضة والشعب. وربما الأهم بالنسبة له أنه ضمن (وهذا يجب أن يكون موضع شك) أن علاقته مع السيد العائد لبيته الأبيض ستكون مستقرة ومجدية وسيلقى دعماً قوياً منه.
فيما ترامب الذي وعد بأنه سيدخل البيت الأبيض على وقع الفرح والسعادة بإطلاق سراح الأسرى حقق ما يريد وقدم نفسه بأنه الشخص القوي القادر على فرض وجهة نظره، فيما خصومه وخاصة الرئيس السابق بدوا عجزة فاشلين والأهم أنهم كانوا داعمين للقتل والحرب في غزة. هذا لا يعني أن ترامب محب للسلام أو محب للفلسطينيين، بل على العكس فإن آخر ما قد يوصف به ترامب أنه محب للسلام أو أنه مؤيد لأي حقوق فلسطينية، لكن المهم بالنسبة له في هذا هو صورته عن نفسه وأمام الآخرين، فهو شخص قوي يهابه الجميع ويخشونه، ويحسبون له ألف حساب. الكل يعرف أنه لولا ضغط ترامب لما تمت الصفقة، ولولا خشية جميع الأطراف لما جلسوا مواصلين الليل بالنهار من أجل الوصول لها. بدا ترامب مثل «بعبع» يتجنبه الجميع، ويسعون من أجل تنفيذ ما طلبه حتى لا يتحقق ما هدد به من حرق كل شيء كما يبدو من عباراته.
أما بالنسبة لـ»حماس» فإن مجرد بقائها في الحكم واستمرارها كطرف مقرر في مصير غزة هو انتصار. الحقائق على الأرض ليست مهمة بالنسبة لقيادة «حماس» طالما بقيت «حماس» كفصيل قادرة على الحديث باسم غزة والإنابة عن الغزيين في كل شيء يتعلق بمستقبل حياتهم. وتظل فكرة مقاربة الربح والخسارة غير واردة حتى لو نتج عن الصفقة إخراج عدد من الأسرى لا يتجاوز نصف من تم اعتقالهم بعد السابع من أكتوبر وتم إبعادهم للخارج في عملية عكسية للحلم الفلسطيني القائم على العودة، وحتى لو صارت مطالبنا تتمثل في العودة إلى ما قبل أيار 2024 قبل احتلال معبر رفح وليس إلى ما قبل السابع من أكتوبر حتى. كل هذا ليس مهماً. وهو في الحقيقة لا يعني إلا من مستهم نار الحرب، أما بالنسبة لـ»حماس» فقد فرضت نفسها وبقيت قادرة على الحديث، ويمكن ترجمة مفهوم الصمود والانتصار بعبارات وإحالات عديدة مثل أن إسرائيل فقط في حالات نادرة (ربما حالة واحدة حتى) تمكنت من تحرير أسرى إسرائيليين من غزة فيما ظلت «حماس» قادرة على منع وقوع ذلك وبالتالي حققت هدفها الأول من 7 أكتوبر المتمثل بتحرير الأسرى، وهنا القصد بالطبع الأسرى رفاق الأسر مع يحيى السنوار من قدامى الأسرى.
كل شخص يدير النار على قرصه كما يقول المثل الشعبي. في المحصلة فإن الجميع ربح حتى لو خسرت غزة، حتى لو تم تدميرها وحتى لو تقلص عدد سكانها بقرابة 3 إلى 4 بالمائة (حسب العدد النهائي للمفقودين) وحتى لو ازداد عدد الأسرى في السجون. ولكن في المحصلة الذي انتصر هو غزة وأهلها الذين أفشلوا مشروع التهجير وحافظوا على آخر ما تبقى من الساحل الفلسطيني رغم مرارات وعذابات الحرب. الذي انتصر هم الشهداء الذين صمدوا في بيوتهم لأنهم منزرعون مثل الأشجار في الأرض، هؤلاء من ربحوا البيع فهم الذين عرفوا معنى أن تنتظر موتك لأنك تريد للقضية أن تظل حاضرة.
فعلى الصعيد الوطني لا شيء يمكن حسابه لأن التضحية من أجل البلاد هي سمة كل شعب يقع تحت الاحتلال. ومع ذلك ثمة نقاش وطني لا بد من فتحه من أجل مراجعة كل ما جرى ومن أجل الوقوف على بواطن الأمور.
هل ثمة فرصة لاستعادة الوحدة الوطنية؟ الآن، الناس في غزة يفكرون في حياتهم القادمة وفي لملمة جراحهم والبحث عن جثامين من فقدوا وإعادة دفن من دفنوا تحت الركام أو على جوانب الطرقات. وعليه من الأفضل للفصائل أن تفكر في كيف تكون عوناً لهم في ذلك وتبحث بجدية في مستقبل أفضل للبلاد.