يقول الحق تبارك وتعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.. سورة التوبة آية 74.
لا يزال الحق و الباطل في صراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولا يزال للباطل أتباعه (وهم أتباع الشياطين الذين يوحون إلى أولياهم ليجادلوا أصحاب الحق) ولا يزال للحق والخير أعوان وهم الطائفة الظاهرة على الحق والمتمسكون به إلى قيام الساعة، لا يضرهم من خالفهم (لأنهم جند الله وحزبه المفلحون الغالبون).
يروى أنه في سبيل نزول هذه الآية عدة روايات منها حينما دع رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم في جيش العسرة وبادر أهل الخير مسرعين بالإنفاق والجهاد بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر، ونصر الله رسوله وجنده وحزبه، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ظافرا منتصرا من غزو بني الأصفر.
ونزل القرآن يفضح النفاق وأهله، وينحى عليه باللائمة ويذكر مؤامراتهم وعاقبهم في الدنيا وما أعد الله لهم من عذاب في الآخرة، قال أحد المنافقين يومها وهو الجلاس بن سويد بن الصامت وكان زوجا لأم عمير بن سعيد وعمير حجره أي ربيبة وهو الذي يقوم به ويطعمه ويسقيه.
فقال الجلاس: والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمر التي نركبها، فسمعها عمير بن سعد وهو لم يزل صغيرا فقال: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي بلاء وأعزهم علي أن يصله شئ يكرهه، و لقد قلت مقاله لئن ذكرتها فضحتني ولئن كتمتها أهلكتني، ولإحداهما أهون علي من الأخرى.
ولأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له ما قاله الجلاس بن سويد فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فحلف بالله أنه ما قال الذي قاله عمير بن سعد، وكان الجلاس ذا شأن في قومه فصدقه القوم ولاموا عميرا على كذبه عليه، فقام عمير بن سعد أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا الله قائلا: اللهم أعلم نبيك ورسولك بصدق الصادق وكذب الكاذب.
فأنزل الله في المجلس قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.. سورة التوبة آية 74.
فقال الجلاس: يا رسول الله أما وقد عرض الله علي التوبة، فإني أتوب وأستغفر الله تعالى مما قلت وإن عميرا لصادق فيما قال، وتاب وحسنت توبته، ونحن أمام هذا الحادث لا يسعنا إلا أن نقدر حق التقدير موقف عمير الإيماني، الذي لم يزل صغيرا ولا عائل له غير الجلاس، وأي شئ يغضبه منه يهدد عميرا بضياعه فمن يعوله غيره ومن يقوم فحوائجه غير زوج أمه.
ومع كل هذا فلم يعبأ بشيء من هذا كله، لأنه توكل على الله فلم يحمل هم الرزق لأن الله تعالى قد تكفل به وكفاه همه، وزوج أمه هو أقرب الناس إليه ومع كل هذا فولاؤه له يوضع في الميزان بجانب ولاؤه لله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}... سورة المائدة الاية 56.
ثم يأتي موقفه بعد أن كذب فيما قاله على الجلاس أمام وجوه قومه وأعيانهم وأصبح ملوما منهم فلم يجد ملجأ يلوذ به إلا الله يسأله أن يبرأ ساحته مما نسب إليه من الزور الذي هو منه برئ، وأصبح بين الناس لا يجد من يدافع عنه فاستغاث بالله ولجأ إليه لجوء المضطر ودعاه دعوة المظلوم فوجه وجهه إلى الله {وأسند ظهره إليه} أن يعلم رسوله بصدق الصادق وتكذيب الكاذب فأجاب الله دعاءه وأغاث لهفته وبرأ ساحته من الكذب.
وأنزل الله جبريل بقرآن يتلى إلي يوم القيامة وانه وهو صغير من الذي يقسمون على الله فيبر الله قسمه ونزل القرآن يحق الله به الحق ويبطل به الباطل لأنه من حزب الله وحزب الله هم المفلحون، ثم يأتي الدور الآخر للجلاس بن سويد الذي قال كلمة الكفر وكفر بعد إسلامه وهم بقتل عمير فلم يدركه فهذه جرائم ثلاث، قال كلمة الكفر وكفر بعد إسلامه وهم بما لم ينله فلم يدركه، ويحلف أنه ما قال كذبا وزورا.
وينزل القرآن ليثبت عليه كل تلك الجرائم ولكنه يقف موقف العقلاء الذين أمعنوا النظر فيما نزل من عرض التوبة عليه بعد كل تلك الجرائم وإن لم يتب فسوف يعذبه الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وليس له في الأرض من ولي يلوذ به ولا من نصير ينصره.
فيعلن أنه قد قال وأنه كاذب وأن عميرا صادق وأنه يتوب إلى الله من ذنوبه ويتدارك ما هو فيه ويرجع إلى الله ويتوب إلى رشده ويفيء من غيه وضلاله إلى نور الحق الأبلج فالرجوع للحق خير من التمادي في الباطل والعودة إلى الصواب أفضل من السير في طريق الغواية ويعلن توبته و يحسن إسلامه.
وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة وكثيرا من الذين أراد الله لهم الخير قد تداركوا مواقفهم وأرادوا أن يطهروا أنفسهم من ذنوبهم وهل هي إلا لحظات معدودة ثم يفارق كل منهم الحياة ويلقي ربه وقد تطهر من درنه فيلقي الله بوجه مشرق مضئ وأكف نقية.
إن التوبة من أجل أخلاق القرآن الإيمانية وذلك لما يعانيه التائب من الرجوع إلى الحق والاعتراف بالذنب وانكسار القلوب أمام حضرة الرب جل جلاله، وفي ذلك من الدلالة على ذكاء النفس ما فيه ولهذا كانت التوبة أول المقامات الإيمانية ومبدأ طريق السالكين ومفتاح باب الواصلين إلى رب العالمين.
وهي أيضا أوسط تلك المقامات وآخرها لأن التوبة هي بداية العبد ونهايته وقد روت لنا كتب السنة صورا من توبة الصحابة بحيث لو قسمت هذه التوبة على أهل المدينة لو سعتهم حتى أهلتهم ورشحتهم إلى الفردوس الأعلى من الجنة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة) رواه البخاري وقال (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) رواه مسلم، وقال (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) مجمع الزوائد للهيثمي.