الوداع محمد حسنين هيكل

كاتب
حجم الخط

يصعب حتى في خضم هذه التواترات الصاخبة من تزاحم الأحداث وتلاحقها في المنطقة ألا نجد مساحة من الوقت لنلقي بكلمة أخيرة في وداع راحل كبير هو الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل، الذي تجاوز مصريته محليته الخاصة ليبدو كما لو أنه الممثل الأخير لجيل من الكتاب والصحافيين الرواد، الذين شكلوا بما يشبه الأخوة المتزاملة حقبة من تاريخ الصحافة العربية، كانت بحق هي الأكثر ابداعية وازدهاراً تماهت بها الصحيفة، وقد بلغت أوج قوتها مع التسمية واللقب الرفيع الذي أضفاه رواد هذه الحقبة عليها، من أنها صاحبة الجلالة الملكة.

وما ميز هيكل من بين أعضاء هذه الأخوة الفريدة او الصفوة من هذا الجيل، انه هو الذي عاش عمرا أطول وكان الأشهر بينهم على الإطلاق، ولعل مفارقة رحيله هنا في هذا التوقيت المتأخر في الزمن قرب نهاية عصر وبداية عصر جديد، ما يحمل هذه الدلالة المأساوية في صراع الصحيفة الورقية الكلاسيكية القديمة، التي تحدث عنها ذات مرة هيغل من أن قراءتها مع فنجان قهوة الصباح، هو ما يرمز إلى عصر الحضارة والمدنية الحديثة الذي يقطع مع الماضي القديم في مواجهة الصحيفة الصلبة والحديدية، التي تمثله شاشة الحاسوب بديلا عن الورق الذي يصنع من شجر الغابات. "بصراحة" بالبنط العريض الأحمر يتوسط عنوان مقالته الشهيرة في "الأهرام" على صفحتين، هكذا الى الآن أتذكر صبياً في المرحلة الابتدائية متصفحاً الصحيفة التي كان يأتي بها والدي الى البيت، لكن قراءتي الأولى لمقالات هيكل كانت مستمعاً عصر كل يوم جمعة في بعض الأحيان بصوت المذيع المصري الشهير جلال معوض، ولست ادري الى الآن أيهما الذي كان يشد اهتمامي اكثر صغيراً، صوت جلال معوض في إضفائه على عبارات المقال هذه الجاذبية المؤثرة الساحرة، أم أسلوب وموهبة الكاتب نفسه التي لا تخلو من قوة تعبيرية وموهبة إبداعية تتميز بالعمق الفكري حقاً والفرادة.

وما زلت أذكر هنا وصفه المؤثر لموت الرئيس جمال عبد الناصر العام 1970 في مقالة شهيرة لا تزال بعض عباراتها تعلق في ذاكرتي الى الآن. لكن قراءتي لهيكل صحافياً ومؤلفاً لكتب عديدة، انما كانت في سني شبابي في السبعينات، هنا سوف يبهرك كاتباً مثقفاً على اطلاع واسع بالتاريخ كما التيارات الفكرية المعاصرة وكذا النظريات والمدارس السياسية، التي طبعت بطابعها الميول والصبوات في القرن العشرين. الى جانب العلاقات الواسعة التي أتاحها قربه من جمال عبد الناصر ورئاسته لتحرير صحيفة الأهرام، التي عقدها مع شبكة معقدة ومتنوعة من الأشخاص الذين كان لهم تأثير على صنع القرارات في العالم كما الأحداث الدولية. وهذه العلاقات التي تحدث عن الكثير من شخوصها في مقالاته او كتبه، مستشهداً بآرائها ضمت ملوكاً وزعماء دول وكذا وزراء خارجية ومستشارين وصانعي قرارات مرموقين، الى جانب جنرالات ومثقفين وكتاب أجانب كبار، الأمر الذي يجعلنا ننظر إليه الآن كواحد من هؤلاء الكتاب والصحافيين الذين تجاوزوا المحلية، وطبعوا القرن الماضي الذي كان قرن الصحافة الكلاسيكية الوقورة والمهابة، كل منهم في بلدانهم بهذا الحضور الذي يقارب في شهرته نجومية عمالقة ممثلي السينما والغناء، إلى جانب ألق رجال الدول في هذا الثراء الفريد من ازدهار الفن كما الصحافة المكتوبة في القرن العشرين.

وقد كان بهذا المعنى هيكل واحداً من كتاب الرأي والتحليل السياسي الذين ينتظر الآخرون رأيهم فيما يجري من أحداث أو أزمات، حتى تحول الرجل في وقت من الأوقات كما المفتي الذي ينتظره الكثيرون لتفسير الملابسات الغامضة التي تحيط بالأحداث والأزمات الطارئة.

وقد كان هذا هو الدور الذي تفرغ لممارسته بعدما فقد برحيل عبد الناصر وخصومته مع أنور السادات قربه من السلطة الحاكمة في مصر، حيث برزت خلافاته مع خلفاء ناصر، السادات ومبارك على حد سواء، ومن سخريات القدر انه لم يسترجع هذه الحظوة الأثيرة في العلاقة مع السلطة، الا في أواخر حياته في تأييده للانقلاب الذي قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي على حكم الإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي.

كما لو أن الأحداث تعيد نفسها في التاريخ كما يلاحظ ماركس مرتين، حينما وقف هيكل في المرة الأولى مؤيداً للانقلاب الذي قاده البكباشي عبد الناصر العام 1952 للإطاحة بالملك فاروق، ولكن هذه المرة في انقلاب قاده جنرال من أعلى الهرم في المؤسسة العسكرية. لقد كان رجلاً في نهاية المطاف مفتوناً بحب الاقتراب إلى حد الالتصاق بالسلطة أياً تكن هذه السلطة، إذ ساند السادات في البداية بانقلابه على مجموعة علي صبري، التي كانت اكثر تمثيلاً لإرث الناصرية.

ولنلاحظ هنا أن الكتاب الأول الذي أصدره بعد وفاة عبد الناصر حمل هذا العنوان، الذي لم يخل من دلالة في حينه "لمصر لا لعبد الناصر". وحتى لما جاء محمد مرسي والإخوان الى الحكم، فإنه حاول مد الخيوط معهم وتباهى بعلاقته ومعرفته لقادة "حماس" حتى انه ذكر محمود الزهار بالاسم. أما الأمر الثاني الذي أثار شغفه حتى الهوس فهو الوثائق ثم الوثائق التي سعى إلى امتلاكها حتى لو كانت قصاصات عمل وشخصية، كمساعدة قدمها إلى علي أمين شقيق مصطفى أمين خصمه اللدود فيما بعد.

وهو بهذا الهوس بالوثائق والمحاضر المسجلة انعكس في مجمل كتاباته، إذ كان صحافياً ومحللاً سياسياً مستغرقاً بكليته في التفاصيل، وقد تميز بأنه شارح ممتاز لما جرى اكثر منه قادراً على استكشاف او توقع ما سيحدث، وكان بالعموم اكثر تريثاً وانتظاراً للحكم على الأحداث في ذروة مجاريها، ولذا كان في التحليل اكثر تجرداً من العاطفة في مقاربته الأحداث، اقرب الى موهبة وأسلوب موزارت في تقيده والتزامه بالقواعد الموسيقية منه الى عاطفة وحماسة بتهوفن. وهكذا لن يكون هيكل جان جينيه الكاتب الفرنسي الذي سيذهب الى قواعد الفدائيين في الأردن ويُمضي وقتاً معهم ويكتب عنهم كتاباً، ولكنه مبكراً سوف يكتب ان الضفة الغربية لا تشبه النموذج الفيتنامي في تضاريسها، ولذا فهي لا تصلح للكفاح المسلح وحرب العصابات. ولن يمل من ذكر دوره في أنه هو من أخذ عرفات وقادة "فتح" من مكتبه أول مرة لمقابلة جمال عبد الناصر، واصطحاب عرفات متنكراً بجواز سفر مع عبد الناصر لمقابلة القادة السوفييت. لكنه استهجن على نحو ساخر ولا يليق فيما بعد من ادعاء عرفات في هذا اللقاء الأول مع القادة السوفييت، من أنه القائد العربي الأكثر أهمية وشعبية في العالم العربي، وكأنما عرفات بذلك ناكر للجميل.

وفيما بعد سيروي في سلسلة مقالات في مجلة "وجهات نظر" المصرية الشهيرة، كيف ان قصة الاعتراف بوحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني في قمة الرياض العام1974 ، على أنها فخ ومؤامرة انزلقت إليها المنظمة، وقد كان هذا الاعتقاد ينسجم في الواقع ورؤيته إلى الصراع كرهان على الجيوش والدول، اقرب إلى كلاوزفيتز منه الى الجنرال الفرنسي بوفر، الذي تحدث عن حروب العصابات واللعبة المضادة.

مقللاً الى حد ما من أهمية المقاومة الفلسطينية وحتى حزب الله. ولذا عندما استضافته العام2006 قناة الجزيرة للتعليق على حرب تموز بين حزب الله وإسرائيل، بدا كما لو انه يلقي بدش بارد على الانفعال الشعبي العربي الذي رأى في ذلك انتصاراً على إسرائيل ولم يعتبره كذلك. وفي ذات السياق وبالرغم من انه بدأ حياته الصحافية التي قامت عليها شهرته المبكرة كمراسل حربي في حرب فلسطين عام 1948، إلا ان ثورة آيات الله والخميني في إيران هي التي استحوذت على اهتمامه ان يؤلف واحداً من اشهر كتبه، مقارنة بالثورة الفلسطينية التي لم تستحوذ على نفس القدر من اهتمامه، فيما بدا في سنوات الحصار ومحنة غزة في حروبها الثلاث، وكذا حصار عرفات واغتياله فيما بعد مسموماً بالمقاطعة، أي الدراما الفلسطينية بكل أهوالها ومآسيها دون هذا المستوى من الأهمية من جانب كاتب لموقفه قوة اعتبارية. لكنه للأسف لم يشأ أن يستخدمها واكتفى من كل ذلك بعد سنوات من اغتيال عرفات على ذكر اتصال هاتفي من عرفات به مذكراً إياه على نحو عاطفي ووجداني، يبعث على الحزن على وضع الزعيم الفلسطيني البائس بزيارة قام بها عرفات الى بيت هيكل.

وما سكت عنه هيكل ولم يذكره ان عرفات بهذه المكالمة ربما كان يعاتبه ويحثه على نحو رقيق وغير مباشر على قول كلمة لم يقلها هيكل. ولكننا للإنصاف وبعد كل ذلك فإنه سيظل يحسب في سجل هذا الكاتب والصحافي الكبير، انه ظل متمسكاً حتى النهاية بالثوابت القومية، وظل شاغله وهمه المصلحة العليا القومية والدفاع عنها على حد سواء. من زاوية اجتهاده ورؤيته وليس موقفه الأخير بنظري من الأزمة السورية، وفيما بعد انحيازه الى المحور الإيراني السوري إلا امتدادا لهذه الرؤية.

ولعل قربه من عبد الناصر وثباته على موقفه القومي هذا هو ما جلب عليه المشاكل والخصومات السياسية في مرحلة من سيرته المهنية، وهو الخلاف الذي أودى به إلى الاعتقال من قبل السادات والتعرض لحملات إعلامية للنيل من شخصيته ومكانته، وهي المرحلة التي سجل وقائعها في كتابه عن "السياسة والصحافة". وقد كان في كل ذلك في أثناء هذه الأزمة الشخصية مدافعاً شرساً عن أفكاره ومواقفه، لم يقدم أي تنازل أو تراجع تحت الضغوط عما يعتقده او يؤمن به، وكان دوماً الأكثر إقناعاً من خصومه. وانه أخيراً في شجاعته على الإدلاء برأيه واجتهاده في محاولته البحث عن الحقيقة التي لم تتوقف بالرغم من تعب سنه وشيخوخته، إنما كان يجسد المثال الحقيقي هذا الصحافي الذي أحب أن يلقب "بالجورنالجي" أن الصحافة هي مهنة المتاعب، وأنه كباقي البشر ربما أخطأ في أشياء وأصاب في أشياء، لكن في سيرته المهنية الطويلة وقدرته العنيدة على مواصلة الطفو ما يستحق الاحترام عند هذه اللحظة التي نقول له فيها وداعاً.