.
كيف الخروج الفلسطيني من مأزق قضاء إسرائيل على خيار الدولتين؟ على من يريد بالفعل الخروج من المأزق الاعتراف أوّلا بوجوده، وذلك في ضوء الدرك الذي بلغته القضية التي كانت في الماضي القريب قضية العرب الأولى.
من أجل أن نتذكّر فلسطين، هناك حاجة إلى مشروع وطني جديد يأخذ في الاعتبار التحولات التي طرأت في الأعوام العشرين الأخيرة، خصوصا بعد الفشل في تطبيق اتفاق أوسلو الموقع في العام 1993، وبعد رضوخ العالم، على رأسه الولايات المتحدة لإملاءات بنيامين نتانياهو الذي وضع نهاية لخيار الدولتيْن الذي كان في أساس البرنامج الوطني الفلسطيني المعتمد منذ العام 1988.
صارت فلسطين غائبة عن الأحداث الدولية على الرغم من أنّ شعبها ما زال يقاوم باللحم الحيّ، وعلى الرغم من أنّها قضيّة احتلال لأرض هي ملك الفلسطينيين واغتصاب لحقوق شعب. لا ثاني لهذه القضيّة الواضحة المعالم في عالمنا الحالي.
ليس طبيعيا أن تصل القضية الفلسطينية، وهي قضية محقّة، إلى ما وصلت إليه في ضوء القدرة التي يمتلكها هذا الشعب على تأكيد وجود هوية خاصة به من جهة، والتضحيات الكبيرة التي قدّمها في مراحل مختلفة من التاريخ من جهة أخرى.
كان الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني ياسر عرفات يخطئ في أحيان كثيرة، خصوصا عندما فعل ما فعله في لبنان. كذلك كان يخطئ عندما كان يتوجب عليه الإسراع في الانقضاض على فرصة ما قد لا تسمح ثانية، ولم يفعل ذلك، وذلك قبل أوسلو وبعده.
لم يخطئ ياسر عرفات عندما قال في حديث أجريته معه إن “الشعب الفلسطيني موجود على الخريطة السياسية للمنطقة ولا يجوز أن يبقى خارج الخريطة الجغرافية”.
لدى التساؤل عن الأسباب التي جعلت القضية الفلسطينية تتراجع إلى درجة، بات فيها سقوط خمسة فلسطينيين من أبناء الضفّة الغربية في يوم واحد مجرّد خبر تأتي وسائل الإعلام العالمية بالكاد على ذكره، لا بدّ من الاعتراف بالواقع الأليم القائم.
هناك أوّلا الانقسام بين كيانين لم يعد ما يربط بينهما هما الضفّة الغربية وقطاع غزّة. تصرّ “حماس” على وجود “إمارة إسلامية” في غزّة مكتفية بالتحرّش ب(إسرائيل) بين حين وآخر بما يفيد مصالح الجانبين. تُعتبر “حماس” المستفيد الأوّل من الحصار الإسرائيلي. لذلك نراها تعمل كلّ شيء من أجل استمراره وبقاء أهل غزّة مجرّد رهائن لديها، في حين كان في استطاعتها تقديم نموذج لما يمكن أن تكون عليه دولة فلسطينية مستقلّة على استعداد للعيش بسلام وأمان مع جيرانها.
أبت “حماس” وضع نفسها في خدمة المشروع الوطني الفلسطيني الذي كان هناك قبول به في الماضي، وأصرّت على القيام بانقلاب من أجل السيطرة على غزّة وأهلها منتصف العام 2007.
تغيّر الوضع الفلسطيني بالكامل. لم تعد الأدوات القديمة التي استخدمت منذ الولادة الجديدة للحركة الوطنية الفلسطينية في العام 1965 قادرة على الإتيان بأجوبة عن الأسئلة المطروحة في هذه المرحلة، خصوصا لجهة القدرة على استعادة المبادرة في الأراضي الفلسطينية نفسها، أو في الخارج. لا قدرة ذهنية أو عملية لدى الأدوات الفلسطينية التقليدية، في مقدّمتها مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، على التكيّف مع الواقع الجديد والعمل على تجاوزه نحو الأفضل.
من لا يزال يسمع بوجود حكومة فلسطينية منذ الضغط على الدكتور سلام فيّاض من أجل الاستقالة بعد اتهامه بالعمل على قيام مؤسسات فلسطينية فعّالة يثق بها المجتمع الدولي؟
لذلك، لم يعد مفرّ من الاعتراف بأنّ هناك حاجة إلى مشروع وطني جديد قائم على توافق في شأن نقاط محدّدة. من بين هذه النقاط سؤال يتعلّق بشكل المقاومة للاحتلال لبلوغ الهدف المنشود، أيا يكن هذا الهدف المطلوب تحديده بوضوح.
هل ينفع الكفاح المسلّح، أو هل يمكن تحقيق نتائج عبر المفاوضات؟ الأهمّ من ذلك كلّه، ثمّة حاجة إلى تفاهم على الحل النهائي الذي يريده الفلسطينيون. هل فلسطين “وقف إسلامي” كما تقول “حماس”، أو هل لا يزال ممكنا الكلام عن حلّ الدولتين الذي دفنه بنيامين نتانياهو… أم لم يعد هناك من حل سوى الدولة الواحدة مع ما يعنيه ذلك من اندماج بالمجتمع الإسرائيلي؟ هذا الحلّ يرفضه عدد كبير من الإسرائيليين الذين يخشون من زيادة عدد الفلسطينيين بسبب النموّ السكاني في المدى الطويل.
يُفترض في الفلسطينيين أيضا الاتفاق على شكل الحكم الذي يريدونه في حال إصرارهم على إقامة دولتهم المستقلّة، أو العمل من خلال الدولة الواحدة على الأرض التاريخية لفلسطين. هل يريدون حكما دينيا، كما تطمح إلى ذلك “حماس”، أم يريدون دولة مدنية تشارك فيها كلّ الأحزاب الموجودة في الساحة الفلسطينية؟
استنفدت التطورات المتلاحقة المشروع الفلسطيني الذي أقرّه المجلس الوطني في خريف العام 1988 في الجزائر. لم يعد هذا المشروع قابلا للتنفيذ بعدما تكرّس الانقسام بين الضفة الغربية وغزّة، وبعدما أكّد نتانياهو المرّة تلو الأخرى أنّه لم يعد مهتما بخيار الدولتين، وأنّ الهمّ الأوّل بالنسبة إليه هو ضمّ القدس والقسم الأكبر من الضفّة الغربية واستمرار الاستيطان.
أضف إلى ذلك كلّه، أنّه لم يعد من وجود يذكر لشيء اسمه منظمة التحرير الفلسطينية التي هي في الأصل مرجعية السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عبّاس (أبومازن).
هناك مشهد فلسطيني معقّد. هناك أسئلة كثيرة لا أجوبة عنها. لكن الحلقة المفقودة في ظلّ الفراغ القائم تتمثّل في الجيل الذي سيرث الجيل الحالي، خصوصا أن تنظيم “فتح” لم يعد قائما، فيما كشفت “حماس” أنّها لا تمتلك أي مشروع يسمح لها بإقامة دولة بالمفهوم العصري والحضاري للكلمة. هل من كيان في العالم يمكن أن يكتفي من العيش عن طريق التهريب كما حال غزّة تحت سيطرة “حماس”؟
إلى متى تبقى فلسطين عند بوابة الانتظار؟ قبل كلّ شيء، لا يمكن للقضية أن تموت نظرا إلى أنّها قضيّة شعب أوّلا. الحاجة إلى جيل جديد يجيب عن الأسئلة المطروحة، جيل من أبناء الضفّة وغزّة يحل مكان الجيل الذي هبط من الخارج مع اتفاق أوسلو. سيدوم الانتظار بعض الوقت، لأنّ مخاض الانتقال إلى جيل آخر قضيّة معقدة في ظروف إقليمية أكثر من معقّدة.
الانتظار لا يعني الجمود. ثمّة حاجة إلى التفكير في الخروج من المأزق، حتّى لو كان ذلك يعني طرح الأسئلة الممنوعة من نوع هل لا يزال من سبيل لإعادة الحياة إلى خيار الدولتين يوما… أم يجب العمل انطلاقا من موت هذا الخيار؟
*نقلا عن "العرب"