المقاومة بين نهجين

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 

أطلقت حركة فتح شرارة الثورة الفلسطينية في 1965، معتمدة بشكل أساسي على نهج الكفاح المسلح، وسط اعتقاد جازم بأن الثورة المسلحة والحرب الشعبية طويلة الأمد هي الأسلوب الحتمي والوحيد لتحرير فلسطين، مع اهتمامها بضرورة إبراز الهوية السياسية للشعب الفلسطيني، وما يقتضي ذلك من نضال على مختلف الصعد السياسية والإعلامية والدبلوماسية والثقافية والاجتماعية، إلا أنها ظلت تعتمد نهج بناء الخلايا المسلحة وممارسة العمليات الفدائية.. فخاضت في سبيل ذلك عشرات العمليات العسكرية والمواجهات المباشرة مع الجيش الإسرائيلي والتي بلغت ذروتها في معركة اجتياح بيروت 1982.
بعد سنوات من انطلاقتها أدركت فتح أن نهج الكفاح المسلح ليس الأسلوب الوحيد، بل إنه غير قادر على تحقيق الغاية منه، خاصة بعد اصطدام الحركة بالواقع العربي والدولي وتعقيداته، فصار الكفاح المسلح من وجهة نظرها أحد الأساليب الناجعة في إثارة انتباه العالم للقضية الفلسطينية، وفي عملية التعبئة الشعبية والتحشيد وتعزيز الانتماء وإبقاء جذوة المقاومة وتمريرها من جيل إلى جيل، وإبقاء القضية الفلسطينية حاضرة في الأجندة الدولية، ومنع الكيان الإسرائيلي من الاستقرار، ومنع الأنظمة العربية من الإنابة والتمثيل ورفض وصايتها على الشعب الفلسطيني وقضيته.
من ناحية عملية حقق الكفاح المسلح حتى ذلك الحين بعض أهم أهدافه: تحويل اللاجئين إلى مقاتلين، وغسل عار النكبة بالثورة، وفرض القضية الفلسطينية على سلم أولويات العالم، والتخلص من الوصاية وانتزاع اعتراف عربي وعالمي بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وبالتالي تكريس الهوية السياسية للشعب الفلسطيني لتكون النقيض المركزي والأهم للمشروع الصهيوني.
في العام 1974 تبنت منظمة التحرير برنامج النقاط العشر، محدثة بذلك تحولاً نوعياً في الفكر السياسي الفلسطيني ونهج المقاومة، مستبدلة هدف التحرير الكامل بهدف الاستقلال وإقامة الدولة المستقلة وانتزاع حق تقرير المصير.
وفي العام 1982 مثّل الخروج من بيروت نقطة انعطاف تاريخية أُخرى في الفكر السياسي الفلسطيني وتحديداً في نهج الكفاح المسلح، حيث بدأت فتح تتحول عنه تدريجياً إلى نهج المقاومة الشعبية والنضال السياسي، دون أن تتخلى عنه رسمياً، لكن ثقل النضال الفتحاوي بدأ يتركز في الأرض المحتلة في مجالات العمل الجماهيري والنقابي والإعلامي، والذي شكل الأرضية الضرورية ومهّد الطريق لاندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى 1987، والتي تعد أفضل شكل نضالي مارسه الفلسطينيون حققوا من خلالها إنجازات بالغة الأهمية.
الخوض في تحولات الفكر السياسي الفلسطيني يحتاج نقاشاً مستفيضاً، سنركز هنا على خيار الكفاح المسلح، الذي وصل أزمة تاريخية أخذت تستفحل أكثر فأكثر على مدى العقود الماضية، وعناوين تلك الأزمة تمثلت في خروج الثورة من لبنان، وبالتالي فقدانها آخر نقطة ارتكاز، وقبل ذلك وأثناءه كانت مشكلة انعدام الدعم اللوجستي (حصار دول الطوق)، وتشتت البيئة الجماهيرية الحاضنة، ثم أتى انهيار المنظومة الاشتراكية وهزيمة العراق (1991) وانقسام العالم العربي إثر حرب الخليج.. ما يعني فقدان الدعم العربي والعالمي (الهزيل أصلاً)، والتحولات العميقة في بنية النظام الدولي من ناحية استفراد أميركا في العالم، وانتهاء الحرب الباردة، وأفول حركات التحرر العالمية، وانحسارها، وبدء ما سُمي عصر «مكافحة الإرهاب»، فضلاً عن التطور الكبير في تقنيات الأمن الإسرائيلي (والدولي).
ومن ناحية فلسفية؛ الكفاح المسلح في جوهره عمل نخبوي ينفذه أفراد أو مجموعات نيابة عن الشعب، ما يعني تعطيل دور الجماهير وعدم مشاركتها في النضال وتحولها إلى جمهور مراقب. بينما المقاومة الشعبية تعني مشاركة الشعب في الكفاح وفي القرارات السياسية لأنه هو مصدر القوة وميزة التفوق الوحيدة على المحتل.
في الخلاصة وصل الكفاح المسلح طريقاً مسدوداً، وبات غير مجدٍ سياسياً بقدر ما صار عبئاً على الجماهير.
هذه الحقيقة تعلمتها فتح من تجربتها السابقة والطويلة، وأدركت أن خيار الكفاح المسلح لم يعد ممكناً، ولا يستطيع الفلسطينيون مواصلته بالشكل السابق لأسباب موضوعية وذاتية؛ فكان خيار أوسلو وقيام السلطة، بهدف التوصل إلى تسوية تفضي إلى دولة مستقلة دون حروب، أو على الأقل بقدر معقول من التضحيات، مع العمل والتركيز على هدف تثبيت الفلسطينيين على أرضهم، وبقائهم في وطنهم من خلال خلق أسباب ومقومات الصمود المتمثلة في بناء المؤسسات والمشاريع التي تخدم المواطن الفلسطيني، بهدف تجاوز المرحلة الحالية الخانقة والضاغطة والنجاة منها بعدم تشريد الشعب مرة ثانية.
هذا المشروع الفلسطيني انقلب عليه اليمين الإسرائيلي مبكراً، وما زال يواصل العمل على إفشاله، وإنهاء السلطة أو إضعافها بالحد الأدنى لأنها ترى فيه العدو الحقيقي الذي تخشى أن يتحول إلى دولة مستقلة.
مشكلتنا الأزلية كفلسطينيين أنه ليس لدينا مشروع وطني شامل تـُجمع عليه كافة القوى والفصائل، وكل فصيل لديه رؤيته ومشروعه المنفصل، وارتباطاته وتحالفاته الخارجية، ولم نقم بعملية مراكمة حصاد التجربة الكفاحية الممتدة وربطها معا ضمن إستراتيجية موحدة ومدروسة، وفوق هذا لا نـُجري مراجعات نقدية لتجاربنا السابقة، ولا نتعلم منها.  
ولم يكن الأمر مجرد خلافات في وجهة النظر، بل كانت خلافات في المرجعيات والغايات، كان كل مسار يعيق تقدم المسار الآخر، فمسار المفاوضات والحل السياسي والمقاومة الشعبية لا يمكن أن يلتقي مع مسار الصواريخ والعمليات التفجيرية، وفي النتيجة فشل المساران ووصلا إلى طريق مسدود.
 لذا حصل الانقسام، وجاءت حماس منفردة بمشروعها «المقاوم» بمعزل عن الإجماع الوطني، وببداية جديدة شكّلت قطيعة عن المراحل السابقة، ولكن بالأساليب والأدوات التي تبين أنها غير مجدية، وبحاجة إلى تبني أدوات وأساليب جديدة بناء على التجارب السابقة.. وأقصد خيار الكفاح المسلح والذي تبنته حماس بأشكال غير معهودة في تجارب حركات التحرر العالمية، والذي تمثل بإعلان الحرب والمواجهة عبر تشكيلات مسلحة شبه نظامية طرحتها إعلامياً أمام العالم بصورة جيش، فجاءت النتائج بالصورة التي رأيناها جميعاً.
استبدال الكفاح المسلح بأساليب أُخرى لا يعني إسقاط خيار المقاومة، أو الاستسلام والخنوع.. فالمقاومة الوطنية مفهوم شامل وواسع ومتعدد الخيارات والأدوات.. وعلينا إعمال عقولنا بتبني الخيارات المناسبة التي لا تجـرُّ علينا المزيد من الانكسارات والمزيد من التضحيات بلا طائل..
المهم أن نعي أن التعلم من تجاربنا لا يعني أن شعبنا ميدان تجارب.