لم يحظَ رئيس دولة عادية أو عظمى بالأوصاف التي حظي بها الرئيس دونالد ترامب، مثل المفاجئ... المزاجي... المقاول... المفكر من خارج الصندوق.
اللافت أنّ فيه بعضاً من كل ما وصف به، واللافت أكثر أنه لا ينكر لا السلبي منها ولا الإيجابي.
محبوه الذين أعادوه ثانيةً إلى البيت الأبيض منحوه فوزاً ساحقاً بعد أربع سنواتٍ قضاها بين المحاكم، ما أظهر كما لو أن أبواب البيت الأبيض أُغلقت في وجهه إلى الأبد.
وخصومه الذين أسقطوه في المرة الأولى، وأتيحت لهم فرصة الحكم لأربع سنوات، أغرقوه خلالها بكل ما يحول بينه وبين البقاء في الحياة السياسية الأميركية، ولم يتركوا وسيلةً لإظهار عدم أهليته لحكم أميركا، إلا واتبعوها واستثمروا فيها.
أمّا العالم، من الصين إلى بنما، ومن أميركا اللاتينية إلى كندا، ومن أوروبا إلى الشرق الأوسط، فقد توجسوا خيفةً منه وعاودهم قلقٌ من إدارته، وخوفٌ على المصالح الأساسية لبعضهم، ومصائر البعض الآخر.
لم يعد أحدٌ يتذكر وعود الحملة ولغتها الهادئة واليقينية بالقدرة على الإنجاز، ليحل محلها خوفٌ كونيٌّ منه ومن مزاجه المتقلب ومغامراته السياسية غير المتوقعة.
دول الجوار الأميركي تمكنت من احتواء جموحه بإجراءات أولية وقائية، ودول أوروبا والشرق الأوسط، حيث الحربان الوحيدتان في العالم، فما إن يُفاجؤوا بمواقف غير مرضية لهم، حتى يستعدوا لاستقبال مفاجآت جديدة، تُوصف من قِبل أركان إدارته وإسرائيل بالتفكير من خارج الصندوق.
نحن العرب لنا معه حكايات كثيرة ومثيرة، بعضها عشناه في ولايته الأولى، وعنوانها «صفقة القرن» التي خرجت من الصندوق الإسرائيلي، وكذلك التطبيع المستجد الذي فاجأ به الكون كله، وبعضها ما نعيشه الآن وعنوانها مصير غزة، التي يريدها «ريفييرا الشرق» ولكن بعد إفراغها من أهلها ومنعهم من العودة إليها، ليس ذلك فحسب بل ولينتج قضايا ذات طابع كارثي لدول الجوار التي قرر بجرّة قلم أن يصدِّر إليها ملايين اللاجئين غير آبه بما تحمله هذه الفكرة «النزوة» من زعزعة أكيدة لاستقرارها الأمني والاجتماعي والسياسي.
ماذا سيفعل مع أوروبا حيث الحرب الأوكرانية الروسية؟
لا أحد يعرف على ماذا ستستقر سياسته الخارجة من صندوقه المليء بالمفاجآت، أمّا ماذا سيفعل عندنا فهذا ما بدأ يتكشّف على نحوٍ شديد الوضوح، فالرجل لا يخفي شيئاً.
السؤال الكبير هو: بعد معرفتنا بما أعلن عنه بشأننا، كيف سيكون التعامل العربي معه؟
قرر العرب الدخول في اشتباك سياسي إيجابي معه عبر الرسائل والوفود والمواقف.
كان الزائر العربي الأول له هو الملك عبد الله الثاني، وكان مقرراً أن يزوره الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي سبقه وزير خارجيته في زيارة عملٍ لواشنطن يصدق عليها وصف «الاستكشافية» أو التحضير لزيارة رئيسه.
ومنذ فتحه لصندوقه الخاص والمشترك مع إسرائيل حول غزة، والدولة الفلسطينية، عاجلته المملكة العربية السعودية بموقف واضحٍ وقاطع... «لا لقبول تهجير أهل غزة إلى أي مكان خارج وطنهم، ولا للتطبيع مع إسرائيل دون دولة فلسطينية، ونعم لتعاون مع أميركا على هذا الأساس».
الاشتباك السياسي أثمر نتائج أوليةً يمكن وصفها بالإيجابية النسبية، لخّصها وزير الخارجية الأميركي الذي قال: «إن من لم تعجبه مبادرة الرئيس ترامب بشأن غزة فليقدم بديلاً عنها».
وفُهم من ذلك أن إصرار ترامب على أفكاره لا يعني بالضرورة فرضها على الآخرين، خصوصاً إذا ما كانت لديهم خطة بديلة، بل إن مصادر عديدة أفصحت عن أن الإدارة الأميركية ستكون منفتحة عليها.
الخطة البديلة عند العرب جاهزة بمبادرة مصرية، ستبحث في القمة الخماسية العتيدة التي ستُعقد في الرياض خلال الأيام القليلة القادمة، والتي ستتلوها قمة استثنائية تضم العرب جميعاً في القاهرة.
أمرٌ آخر ذو صلةٍ وثيقة ودلالة، هو اللقاء الذي سيتم بين بوتين وترامب في المملكة، وفي هذه الحالة فالسعودية التي تتكرس كقطب دولي، تسعى دول العالم جميعاً للاتصال بها ولإقامة علاقات عملٍ معها لن تكون مجرد مكان يوفر استضافة، بل ستكون - وهي صاحبة المبادرات النوعية في مشاريع حلول القضايا الساخنة - ممثلة للعرب والعالم، بما لديها من أوراق مهمة كانت وفّرتها أساساً في الشأن الشرق أوسطي، بالحشد الدولي المبكر الذي أقامته وضمّ معظم دول العالم من أجل الدولة الفلسطينية المستقلة.
أخيراً... مهما كانت أوصاف ترامب السلبية أو الإيجابية، فهو أولاً وأخيراً رئيس أكبر دولة في العالم، وهو الأكثر تأثيراً في القرارات الإسرائيلية، بل الداعم الوحيد لأجنداتها حتى المغامرة منها، ذلك لا يعني إطلاقاً الإذعان لما يريد، بل لا بد من التعامل معه بلغة العرب وحساباتهم، ولديهم من الإمكانيات والتحالفات الراهنة والموازية ما يؤهلهم للتعامل بندّية في منطقة هم أصحابها من الأزل وإلى الأبد.
هل ينجح ترامب في توحيدنا؟
19 فبراير 2025