مصر تردع إسرائيل

WptCE.jpg
حجم الخط

الكاتب: رجب أبو سرية

 


اعتبرنا في مقالة سابقة بأن منعطف مسار صفقة التبادل هو بند المعدات الثقيلة والبيوت المتنقلة، لدرجة أن حرب «الكرفانات» كما وصفناها قد اشتعلت بين مصر وإسرائيل، وقد جاءت الأيام القليلة الماضية لتؤكد ما ذهبنا إليه، ذلك أن دخول المعدات الثقيلة والبيوت المتنقلة إلى قطاع غزة، يعني فتح الباب أمام بقاء السكان، وإغلاقه في وجه خطة ترامب القاضية بالتهجير، وقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن مصر هي التي تفرض تنفيذ هذا البند، وأن الأمر لم يعد شأناً بين حماس وإسرائيل فقط.
والحقيقة التي كنا نقولها دائماً ومفادها أن فلسطين عموما وغزة على نحو خاص، تشكل خط الدفاع الأول عن مصر، لذلك دائما تعاملت مصر مع غزة، بصرف النظر عمن يديرها أو يسيطر عليها، باعتبارها نافذتها على الشرق، وقد تعاملت مصر طوال أكثر من عام ونصف بكل صبر وحكمة، حيث كانت من جهة تتعامل مع حماس التي تتأثر في قراراتها بأكثر من جهة، ومن جهة أخرى مع إسرائيل المراوغة، والمحكومة باعتبارات داخلية معقدة، وبائتلاف متطرف للغاية، لا يفكر وفق الحرفية أو المهنية الأمنية المعروفة، ورغم أن قطر هي التي كانت تتصدر المشهد التفاوضي، باعتبار أن قادة حماس أقرب إليها، إلا أن القاهرة كانت من وراء الكواليس تتقدم بعد أن تستنفد قطر طاقتها في مواجهة التردد والمراوغة الإسرائيلية، وليس أدل على ذلك ما قامت به حين «جمدت» قطر قبل وقت وساطتها، حين اتهمها بنيامين نتنياهو بالانحياز لحماس، بل وحين كانت إسرائيل تغلق مكاتب الجزيرة في القدس.
وكان الأمر من جهة مصر يبدو بعيداً أو عادياً، رغم أن رئيسها عبد الفتاح السيسي رد بهدوء على مقترح التهجير الإسرائيلي في بداية الحرب، والمرفق بوجهته إلى سيناء، وذلك في حضرة المستشار الألماني، بأن تفتح إسرائيل أبواب النقب بدلاً من سيناء، لكن إسرائيل، على ما يبدو لم تفهم جيداً الهدوء المصري، ولا حتى وهي «تتجاوز» اتفاقية كامب ديفيد معها، حين احتلت معبر فيلادلفيا، وذلك لأن مصر ظلت تحتفظ بأوراق قوتها إلى حين تصل الأمور للنقطة الفاصلة، وحتى أنها لم تظهر علامات الغضب، وإسرائيل تدعي وجود أنفاق بين غزة ومصر، بما يشير إلى خطوط إمداد عسكري من مصر لغزة، تبرر لنتنياهو اجتياح رفح واحتلال المعبر والممر الفاصل، وكان كل ذلك، كما كان حال دخول القوات العسكرية المصرية إلى مناطق «ب» و»ج» من سيناء خلافا لنصوص كامب ديفيد، وذلك في ظل حربها ضد الإرهاب، أي أن مصر كانت ترى في «الخرق» الإسرائيلي، والذي هو أخطر من كونه اختراقا لاتفاقية السلام، بتجاوزه حدود الأمن القومي المصري، ما هو إلا أمر مؤقت، مرتبط بفترة الحرب.
أما حين يأتي الحديث عما بعد الحرب، أو اليوم التالي للحرب، فإن الأمر يصير مختلفاً مئة وثمانين درجة، فلا تعود القصة مرتبطة بحماس أو غيرها، ولأن القاهرة كانت أحد الأطراف الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار، فإنها تعرف التفاصيل جيدا، ولأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب حاول خلط الأوراق مجددا، بخطته المفاجئة عن تهجير سكان القطاع، واستثماره لصالح أميركا، فإن مصر سارعت إلى الوقوف في وجه ترامب، وليس إسرائيل وحسب، ولأنه كان واضحا منذ بداية الحرب وحتى هذه اللحظة، بأن إسرائيل وجدت في الحرب فرصتها الأخيرة لطي ملف القضية الفلسطينية نهائيا، وهي قد غامرت كثيرا بالطبع، لدرجة أن تبدو منبوذة سياسيا وقضائيا على المستوى الدولي، وراهن نتنياهو على وصول ترامب للحكم، بعد أن نال من بايدن كل ما احتاجه للاستمرار بحرب مدانة دولياً وعالمياً، إلى لحظة نيل الموافقة الأميركية على خطة التهجير.
واضح أن التهجير لا يقتصر على قطاع غزة، وأنه لو نجح في غزة، فسرعان ما ينتقل تنفيذه إلى الضفة الفلسطينية وربما إلى الجولان وجنوب لبنان وحتى الجليل والمثلث، لذا فإن تلاحما مصريا أردينا نشأ فور إعلان ترامب، ومن ورائهما السعودية، بحيث شكل المثلث العربي رأس حربة الصد ضد الخطة، التي أطلقت أحلام المتطرفين الإسرائيليين من عقالها، بحيث داعبت حدود النيل والفرات، ولأن الحديث حالياً هو عن غزة، والتهجير يبدأ بها، فإن حائط الصد المصري يتحمل عبء المعركة الحادة اليوم، فبعد أن صمد قطاع غزة، ووقفت المقاومة أمام آلة الحرب الإسرائيلية ـــ الأميركية بكل بسالة، ولأن الحروب عادة ما تنتهي بنتائجها، فإن «عقدة منشار الحرب» باتت معلقة بهذه الخطة، وإسرائيل بكل من فيها تتعلق بأهدابها، فيما الشعب الفلسطيني بات معلقاً في الهواء ارتباطاً بها، كذلك كل الشرق الأوسط، بات أمام أبواب الجحيم، في حال تم تنفيذ خطة ترامب.
مصر بردها الحاسم على خطة ترامب طيرت صواب الإسرائيليين، الذين سارعوا إلى التهديد والوعيد، ولكن القاهرة لم ترد لا رسمياً ولا عبر تسريبات، لكن إعلاميي مصر، أكدوا أولاً رفض مصر القاطع لتهجير سكان غزة، ليس إلى سيناء وحسب، ولكن لأي مكان كان، واعتبروا أن دافعهم لذلك يتجاوز الدافع الأخلاقي لأن ذلك يمس الأمن القومي المصري، وكان لافتا أن يزور رئيس هيئة الأركان قوات الجيش الثالث ويعلن جهوزيته الكاملة، فيما لم تظهر مصر أي اهتمام بالتهديد الأميركي بقطع المعونة العسكرية، بل إن رئيسها أعلن إلغاء زيارة كانت مقررة لواشنطن.
باختصار يمكن القول، إن مصر تضغط على إسرائيل للبدء بتنفيذ البروتوكول الإنساني، بالسماح للمعدات الثقيلة والمنازل المتنقلة بالدخول لقطاع غزة، وهي تعرف أن هذا يعزز صمود السكان، الذين لا يكفي وجود المقاومة بينهم لحمايتهم، ولا صمودهم في أرضهم ورفضهم الهجرة منها، دون دعم خارجي، ذلك أن إسرائيل باتت تراهن، بما تعتبره هجرة طوعية على التدمير الفعلي لمقومات الحياة، مع استمرار ذلك بعدم إدخال المنازل والخيام وعدم إزالة الركام، والأهم مع التحكم بمعبر رفح، وقطع المعونات الإنسانية لاحقاً، وللجميع أن يتخيل بعد أن يخرج المحتجزون الإسرائيليون من غزة، كيف يمكن لحصار مطبق مع فتح بوابة وحيدة هي الهجرة، أن يفعل بمليوني إنسان، وهذا يؤكد أهمية الموقف المصري الحاسم في هذا الشأن.
حماس أدركت جيداً وباتت ترى في مصر الأم التي يمكنها وحدها أن تحمي الوليد من الغرق، لذا أعطتها إعلاناً بالخروج السياسي من المشهد، شريطة أن تتكفل مصر بحماية سكان غزة من التهجير، وبتقديرنا فإن قوة مصر، بعد أن أظهرت العين الحمراء لإسرائيل، لا تضع حداً لخطة ترامب وحسب، بل ستغلق الباب بين إسرائيل وغزة، وعلى الأغلب فإن عشر سنوات قادمة وفق الخطوط العامة المعلنة للخطة المصرية المضادة لخطة ترامب، ستكون الوقت الكافي لتظهر غزة ككيان معافى وكبقعة تعزز السلام الإقليمي.
لكن إسرائيل لن تتوقف، وغزة لم تكن في الأصل غايتها الأولى والأساسية، فرضوخ ترامب ونتنياهو لمصر، وإغلاق خطة التهجير على أبواب غزة، لا يعني إغلاقها في الضفة الفلسطينية، بل إن أخطر ما في الأمر هو أن تتوقف الصفقة السياسية عند حدود غزة، وأن لا تفتح الباب السياسي أمام الدولة الفلسطينية، أو أن لا تعالج الوضع في الضفة، ذلك أن إسرائيل ستواصل خطتها في الضفة، وهي حتى الآن نفذت حرب الإبادة في شمال الضفة، في جنين التي دمرت 90% من منازل مخيمها، وطولكرم، كما فعلت بشمال غزة وفق خطة جنرالاتها، خاصة أن الضفة أهم لها جغرافياً وعقائدياً من غزة.
حتى وإن حدث هذا، فإن خروج غزة من دائرة خطر التهجير، وبقاء الضفة داخلها، لا يعني أن إسرائيل ستنجح هناك، فالأردن أكثر من مصر يعتبر تهجير سكان الضفة تهديداً وجودياً، ويمكنه أن يرد ليس بمواجهة عسكرية كلاسيكية، ولكن موقفه الحاسم سيولد انعكاسات ليست سهلة على إسرائيل التي يجب أن ترى العين الحمراء هناك أيضاً، لتتراجع، ولإجبار ترامب على أن يفكر جيداً في صفقة سياسية رابحة، إن كان يسعى لتدشين طريق التجارة من الهند لأوروبا وأميركا مروراً بالإمارات والسعودية والأردن.