المسألة الدينية في نشأة المشروع الصهيوني!

تنزيل (1).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد المجيد سويلم

 

أثار الأستاذ عبد المجيد حمدان في مقاله بتاريخ 22 شباط 2025، بعد أن «اتّهم» الكل أو معظم المؤرّخين والمثقّفين والأساتذة الدارسين لطبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين، بالوقوع في شرك النقل على حساب العقل، وترداد مقولات لا تنتمي للواقع، وهي آتية من «الغرب» عموماً، وأكد حمدان أنه هو نفسه قد وقع في هذا الشرك.
وانتقل مباشرة من هذه المقدّمة إلى توضيح فكرته، التي مفادها أن المشروع الصهيوني لم ينشأ أساساً لتأمين مصالح البلدان الاستعمارية، لأنه كان وما زال عبئاً اقتصادياً ومالياً عليها، ولهذا فإن الهدف بالأساس لم يكن كذلك، وإنما كان الهدف مختلفاً، وأن في صلب هذا المشروع كان يكمن العامل الديني اليهودي المسيحي على وجه الخصوص. هنا أقتبس من حمدان:
[ستسألني: إذا لم تكن إسرائيل مشروعاً استعمارياً كما تقول، فماذا كانت وتكون؟
فأجيب: هي مشروع ديني تواطأت قوى أميركية وأوروبية عديدة على تنفيذه، بحكم التشارك بالعقيدة الدينية، وفي تناقض صارخ مع أفكار وقواعد تطبيق المشاريع الاستعمارية، وبحكم هذا التشارك قبلت بحمل كل أعباء إقامته، رعايته وحمايته..]، انتهى الاقتباس.
وهنا يستدلّ حمدان على مثل هذا الاستنتاج بإيراد وقائع تاريخية، في سردٍ تاريخي مطوّل كيف أنّ «الغرب» الاستعماري لم يتوافق على دعم المشروع باعتباره مشروعاً استعمارياً، في حين إن أوروبا كلها، ومن دون استثناء، وكذلك في بلدان كثيرة في غربها وفي شرقها، كلهم دعموا المشروع الصهيوني، لأنه بالأساس يستجيب (التعبير هنا لي وليس لحمدان) للمشترك الديني بين بلدان استعمارية غربية، وبين بلدان ليس لها أي ماضٍ استعماري مثل ليتوانيا مثلاً.
باختصار لا يدعو حمدان وفق هذا المنظور لوصف النضال الوطني بالنضال على الأساس الديني ــ فهذه مسألة ستكون نتائجها أسوأ وأوخم عاقبة ــ كما يؤكد حمدان، وإنما هو ببساطة يقول إن عدم طرق هذا الباب، الذي لم يُسمح طرقه سابقاً، سيسمح لإسرائيل، وهنا أقتبس من جديد [مواصلة احتكار الرواية الدينية، بأساطيرها وأكاذيبها المنتشرة في التوراة والتلمود، وكتب التشريع الأخرى]، انتهى الاقتباس.
يرى حمدان أنني ربما أسخر من هذه الأفكار، أو أنني سأستعجبها، لأنه وكما ذكر نصاً، ناله من الرفاق والأصدقاء ما ناله جرّاء ما عبّر عنه، وجرّاء ما ورد في كتابه «وعد التوراة».
أُحبّ أن أُطمئنك بأنني لم أسخر من هذه الأفكار، لا الآن، ولم أسخر سابقاً، ولم يخطر ببالي، لا الآن، ولا سابقاً، أنك ترى أو تؤسّس لمشروع مجابهة مع المشروع الصهيوني من مداخل دينية، وأنني أُسجّل لك هذا الطرح، وليس عليك، مع أنني سأُبيّن بقدر ما أستطيع أين أختلف معك بالضبط.
إذا كان المقصود بالأفكار التي أوردها حمدان مرحلة النشأة الأولى للمشروع الصهيوني، فالحقائق الواردة في سرديته لا يمكن التشكيك بصحّتها عموماً، والتفسير الذي أورده لا يمكن إغفاله على الإطلاق، ولهذا بالذات كنت من أنصار التمحيص في أُطروحته، وليس «الاستهزاء» بها.
السؤال هو: هل سار المشروع الصهيوني بعد مرحلة النشأة الأولى، وهي مرحلة جَنينية لم تستمرّ طويلاً، كما أرى.. هل سار وبقي على نفس هذا النسق والمنوال؟ وهل قطع شوطاً طويلاً في هذا المسار أم أنّ المسألة الدينية! كما أوردها حمدان توارت إلى الخلف، وأصبحت في المشهد الخلفي من المشروع، وأنها أزاحت نفسها ــ بوعيٍ وإدراكٍ عميقين ــ عن واجهة المشهد، وأخلت الممرّ لصالح تحوّل المشروع برمّته لصالح الطابع الاستعماري له؟
متى وكيف حدث ذلك؟
ما أراه هنا هو أن الغزو الاستعماري قد لبس دوماً هذا اللباس قبل تأسيس المشروع الصهيوني. الأوروبيون الذين «غزوا» الأميركيتين، والذين غزوا أستراليا، ونيوزيلندا تحدثوا في أغانيهم وأهازيجهم أثناء حروب الإبادة التي شنّوها على السكان الأصليين عن «صهيون»، وعن الأرض الموعودة، وليس أرض الميعاد، كما جاء في الأطروحة الصهيونية، واستخدمت الثقافة «اليهودية» في الغزو، وبنفس التعابير والمصطلحات تقريباً، مثل تعابير الأخيار والأغيار، وسادت أثناء حروب الإبادة هذه، مفاهيم تبيح الإبادة، كما تفسّر الأطروحات التلمودية «الجوهر» التوراتي للتعامل مع الأغيار، وحتى في الحروب الإفرنجية، والتي أطلق عليها الحروب الصليبية، استخدمت نفس طريقة الإباحة والاستباحة، وأعطيت الجيوش الغازية نفس «الحقوق» من الأساطير الدينية اليهودية بالتفاسير التلمودية.
أقصد أنه، وفعلاً لا يمكن تجاهل هذا «الحلف» الديني بين اليهودية، بهذه المعاني، وبين المسيحية الغربية بنفس المعاني المتأثرة بهذا «الحلف»، ولكن ذلك ينطبق على البدايات الأولى، ولا ينطبق، برأيي، على المراحل اللاحقة التي أعقبت هذه المرحلة.
عاد المشروع الصهيوني ليندمج، وليدمج نفسه، ثم لينخرط، بما في ذلك الانخراط التام في الحلف الاستعماري منذ المؤتمر التأسيسي للحركة الصهيونية 1897 في بازل بسويسرا وحتى قيام الدولة اليهودية التي سمّيت «إسرائيل».
وكان نفس هذا المشروع قد «قاتل» إلى جانب الحلف البريطاني الأميركي في الحرب العالمية الثانية لكي يجهّز نفسه للمرحلة التالية، وهي مرحلة قيام وتأسيس الكيان الصهيوني، وهو ما يفسّر هذا الإجماع الغربي والشرقي، في الوقوف إلى جانب تأسيس هذا الكيان.
وانخرط المشروع الصهيوني في [خدمة] وليس أقلّ المصالح الغربية، خصوصاً بعد تأسيسه.
وإلّا كيف نفسّر موافقة الولايات المتحدة على «وعد بلفور» قبل الإعلان عنه، وكيف نفسّر البعد الاستعماري لهذا الوعد كما جاء في بعض التقارير بعد «الإفراج» عن وثائق هذا التأييد؟
ثم هلّ يمكن عزل دور البرجوازية اليهودية عن ملابسات تأسيس هذا المشروع؟ ألم تكن هناك تناقضات بين البرجوازيات الغربية، ذات الطابع الاستعماري بين هذه البرجوازية؟ ألم يكن لازدهار عصر القوميات علاقة مباشرة بالمشروع الصهيوني، حيث نشأت وتبلورت «المسألة اليهودية» في كنف هذا العصر؟
كما تعرف، يا حمدان، فإن الصراع الطبقي لا يظهر عادةً بصورته الجليّة، وإنما في الغالب يلبس لباس الدين أو العرق أو الطائفة، أو غيرها من الأشكال، ولا أظنّ أنّ المسألة قد خرجت عن سياق هذه المقولة الماركسية الخالدة.
لقد تنافست الولايات المتحدة مع بريطانيا وفرنسا على قيادة الإقليم، وغضبت غضباً شديداً من القيادة الإسرائيلية لانخراط الأخيرة في «حرب السويس» إلى جانب فرنسا وبريطانيا، لأن الولايات المتحدة كانت تريد أن تحلّ محلّهما في المنطقة، وهذا هو التفسير الوحيد للموقف الأميركي الداعم للانسحاب بعد العدوان الثلاثي 1956، خصوصاً بعد تهديد الاتحاد السوفياتي آنذاك.
لذلك وإن كنت أقدّر عالياً أطروحتك حول البعد الديني في المراحل الأولى لنشأة المشروع الصهيوني، إلّا أنني أرى وأعتقد أن هذا المشروع سرعان ما عاد ليندمج ولينخرط في المشروع الاستعماري الأكبر، وما زال الأمر كذلك، ولن يكون إلّا كذلك، والأيام تثبت هذه الحقيقة، وسينهار هذا المشروع مباشرة مع تصدّع الغرب الاستعماري لا محالة.
تحتاج «الإبراهيمية» إلى مناقشات أخرى، وهي مسألة مهمّة للغاية، وأرى هذه الأهمية من زاوية الإشارة التي أوردها حمدان.