سأبدأ بالقول إن المرحلة لم تعد تتحمّل استبدال لغة بلغة أخرى، كأن يحلّ التفاؤل في مكان التشاؤم، أو حتى استبدال الحالة الضبابية، أو الحالة السائلة بحالة التشاؤل، وذلك أن الحالة السائلة هي منطقة وسطى بين الصلبة والغازية.
لم تعد المرحلة تحتمل "اختراعات" حالة أو حالات لا وجود لها في الواقع إلّا كحالة متخيّلة.
عندما نبدأ بقراءة قرارات القمة العربية التي اختتمت أعمالها في العاصمة المصرية، أمس، باعتبارها "إنجازاً" فإن جوهر رؤية الإنجاز المعني إنما يكمن في المسائل الملموسة:
الأولى، أن القمة قد رفضت قد رفضت رفضاً باتاً وقاطعاً فكرة اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه من أساسها، ورفضت القمة من على قاعدة رفض التهجير أن تتم عملية إعادة البناء للقطاع مقترنة بإخراج أهل القطاع إلى خارجه أثناء عملية إعادة الإعمار، وطبعاً نحن جميعاً نعرف أن العودة ستكون ممنوعة.
هذا الموقف الذي عبّرت عنه القمة بدرجة عالية من الوضوح لا يعني شيئاً، لأنه وبحدود ما نعلم لم يكن هناك من يقبل بهذا التهجير، أو لم تجاهر أية دولة عربية بقبوله، وكان مثل هذا الرفض قائماً قبل القمة، وكان واضحاً ومعلناً، وهو بهذا المعنى بالذات لا يحمل أيّ جديد. وبالتالي فإن منطق، وخلفية المنطق للرفض العربي في قرار القمة إنما هو في مواجهة الخطة الإسرائيلية التي أعلنت عنها منذ الأيام الأولى للحرب، والتي انتظرت مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب للموافقة عليها، والذي أعلن عن "استحالة" إعادة الإعمار بوجود أهل القطاع داخله قبل أن يُسهب ترامب، وقبل أن يطلق العنان لمشاريع الريفيرا في غزة، وتصويرها بعد "تنظيفها" وبأنها ستكون مكاناً "رائعاً" على مستوى كل المنطقة.
والذي جرى هو أن ترامب قبل وأثناء وبعد الرفض العربي، المصري والأردني، ولاحقاً السعودي، أدخل المنطقة كلها في نقاشات عبثية من محاولات تفسير أقواله التي كانت تتناقض كل يوم، وأحياناً بفارق عدة ساعات، وبعد أن "تنازل" عنها، ثم أعاد تمسكه بها، ثم أعاد تفسيرها، وأكد على كونها "مجرد" اقتراحات، وكرّر نفس هذه التناقضات في مناسبات عدة.
المهمّ أن ترامب حاول تسويق الخطة الإسرائيلية للتهجير ولكنه فهم أن مثل هذا الأمر ليس متاحاً في الواقع القائم.
والثانية، واستطراداً في منطق النقطة الأولى فقد جاءت خطة إعادة الإعمار بأرقامها ومراحلها، وتتابع هذه المراحل اعتماداً واستناداً إلى "ضرورة" الالتزام بالمراحل الثلاث لاتفاقية وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
كل هذا ممتاز وجميل ولكن:
ماذا سيكون مصير هذه الخطة إذا رفضت دولة الاحتلال التعامل معها، وماذا إذا كان هذا الموقف هو الموقف الأميركي؟
لا تحتاج القمة العربية لإقناع منظمة التعاون الإسلامي، فهي على نفس درجة قناعة القمة العربية، ولا تحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى إقناع، ولا دول أميركا اللاتينية، ولا دول آسيا وإفريقيا، ولا المنظمات الدولية والإقليمية، لأن الكل مقتنع قناعةً تامةً وراسخةً بأن هذه الخطة هي ضرورية وملحّة، وأن التقيد باتفاقية وقف إطلاق النار أمر لا بد منه، وأنّ لا حاجة لأن تجوب "اللجان" دول العالم ومنظماته لإقناع كل هؤلاء لأنهم جميعاً على أعلى درجات القناعة بها.
من يرى تطبيق وتفعيل هذه الخطة يحتاج إلى إقناع دول العالم بها هو في الواقع يهرب ويتهرّب من "الآلية" المطلوبة لكي تتحول هذه الخطة من خطة لا تحتاج إلى كل هذه الدرجة من الضجّة، لأنها ليست جديدة، والبتّ بشأنها قد تم فعلاً، سواء تعلّق الأمر برفض التهجير، أو إعادة الإعمار، وحتى الأرقام هي متقاربة مع أرقام وإحصاءات الأمم المتحدة، ومؤسسات بحثية ومالية دولية أخرى.. وإنما ما تحتاجه قبل كل شيء هو الإجراءات، وكذلك الخطوات العملية المناسبة والمطلوبة في حال إن رفضت دولة الاحتلال التعامل معها، أو أعربت أميركا نفسها عن عدم التعاطي معها.
والسبب بسيط ومعروف، حيث أعلنت كل دول العالم، ومنظماته رفض مبدأ التهجير، وضرورة وجود خطة لإعادة الإعمار، لكنها لن تتمكن من المشاركة بها بصورة عملية مباشرة قبل أن تكون دولة الاحتلال قد قبلت بها، أو استعدت لمناقشتها، أو أبدت رغبةً بإخضاعها للحوار أو التفاوض بشأنها. والسبب هنا، أيضاً، بسيط ومعروف، إذ لا يُعقل أن يتم حشد الموارد السياسية والمالية والفنية لهذه الخطة إذا كان مصير كل ما تتطلبه سيكون في مهب الريح، وإذا كان الشروع بها يحتاج إلى أجواء مستقرة ومتوافق عليها بين كل أطراف الصراع.
باختصار فإن هذه الخطة هي عمل سياسي "نظري" يخلو من أي قيمة عملية إذا لم يتم التزام الدولة العبرية المحتلة للقطاع، والمسيطرة على كل جزء فيه من الزاوية العسكرية والأمنية بها، وإذا لم تكن أميركا مؤيدة لها، وداعمة لمحتواها ومراحلها وأهدافها.
وكان بإمكان القمة إن كانت جادة فعلاً بالذهاب بعيداً في فرضها على جدول أعمال المنطقة، وفي اعتماد العالم لها أن تُقرِن ما بين طرحها وفرضها وما بين آليات تحويلها إلى واقع ينتزع من دولة الاحتلال زمام المبادرة، و"الفيتو"، ويجرّد الاحتلال من الاستمرار بابتزاز أهل القطاع بالقتل والموت والتجويع والتشريد، وأن يحوّل الورقة الأولى في يده، وهي ورقة إعادة البناء إلى ورقة في يد العالم العربي، وفي يد العالم بدلاً من سياسة التسوّل السياسي من الاحتلال.
كان بإمكان القمة العربية أن تقول بأن رفض دولة الاحتلال لهذه الخطة سيؤدي بالعالم العربي إلى الوقوف صفاً واحداً وراء حق الشعب الفلسطيني في حقه المشروع بمقاومة الاحتلال، وفي استخدام كل ما هو مقرّ في القانون الدولي من وسائل للدفاع عن نفسه ووطنه وشعبه في مواجهة حرب الإبادة والتجويع التي تشنّ عليه.
وكان بإمكان القمة أن تهدد بتجميد كل أشكال العلاقة مع دولة الاحتلال حتى تنصاع للقانون الدولي وللشرعية الدولية، بما في ذلك كل مخططات "التطبيع"، وكل أشكال التعاون.
هنا فقط كان بنيامين نتنياهو سيخسر كل شيء، وهنا فقط كان سيضع المجتمع الإسرائيلي أمام صدمة جديدة مفادها أن قرارات استمرار الحرب العدوانية ستكون وبالاً على هذا المجتمع، وأن دولة الاحتلال ستفقد كل شيء، بعد أن تورطت في كل شيء.
لماذا لم تقدم القمة ما يغري ترامب بالمواقف المتوازنة بالحديث المباشر عن المصالح الأميركية، ليس بمعناها الشامل والعام، وإنما بالمعنى الذي يريده في هذه المرحلة، أي الاستثمارات والازدهار والصفقات المربحة للاقتصاد الأميركي؟ لماذا الدفع المسبق والمجاني؟ لماذا هذا الخوف من ترامب، ومن نتنياهو؟ أليس وضع مصالحهم على المحك هو الأجدى، وهو السلاح الذي يجبرهما على التفكير ألف مرة قبل الإقدام والتقدم في سياساتهما الإجرامية؟
أين هو المحور العربي المقابل لمحاور الإقليم، المحور الإسرائيلي والتركي والإيراني؟
لماذا سيشعر نتنياهو بالتهديد إذا كان النظام العربي سيحسب في إطار الحلف الأميركي ضمناً وتلقائياً؟
ولماذا سيحسب ترامب أي حساب لعالم عربي لم ينتقل بعد تحت دائرة السياسة وهواجس الخوف من السياسات الأميركية، مع أنه نفسه غادر هذه الساحة، وهو الآن يبحث فقط عن كل ما هو اقتصاد من أجل مصالحه الاقتصادية؟
ألم تتحوّل فلسطين موضوعياً، وبحسب تهديدات نتنياهو المعلنة إلى خط الدفاع الأوّل عن كل "دول الطوق"؟
إذا كان النظام العربي لم يدرك بعد أن وجوده مربوط فقط بالأوراق التي يملكها في كل المجالات وهي ضماناتهم الوحيدة، ولا ضمانات أخرى لديهم، فمتى سيدرك ذلك؟
إذا كانت "الترامبية" ستضحي بأوروبا، وبـ"حلف الناتو"، وبحلفاء أقرب إليهم من حبل الوريد، فهل ستتمسّك بالنظام العربي المجرّد بالكامل من كل أوراق قوته؟
يبدو أن "العرب" هم أوّل من يخاف وآخر من يدرك ويفهم، وهم وحدهم من يتقنون فنّ الخسارة عندما تتوفّر كل فرص الفوز.
القمة العربية وسؤال فلسطين
04 مارس 2025