قضية منسية في إضراب المعلمين: كيف تُضِرب منظمة التحرير ضد نفسها

21
حجم الخط

ليس الموضوع هنا مطالب المعلمين العادلة أو الحل الأمثل أو الممكن لعودتهم للتدريس، وإنما قضية أساسية منسية، أو أنه يوجد الآن بداية إدراك لها لكن هذا الإدراك غير مكتمل. وهي قضية أعم، تتعلق ببنية منظمة التحرير الفلسطينية وتمثيل الأطر الشعبية والاتحادات كافة بعد إنشاء السلطة الفلسطينية، وما إذا كان من الممكن أن تمثل قيادات هذه الإتحادات بما في ذلك قيادة إتحاد المعلمين، قاعدتها الإنتخابية دون تعارض في الأدوار وفي المصالح، كون الإتحاد ضمن أطر منظمة التحرير. وما أشبه اليوم بالبارحة. فقد نشأ هذا التعارض في إضراب مماثل تماما للمعلمين في المدارس الحكومية في العام 1997. ووجدت القيادة الرسمية للإتحاد نفسها في موقف حرج مشابه لما حصل في الإضراب الحالي. ومع استمرار الإضراب في حينه وجدت القيادة الرسمية للإضراب، وليس الفعلية التي تشكلت من «لجان معلمين» غير معترف بهم رسميا، وجدت نفسها في موقفا مناهضا لمطالب المعلمين الذين من المفترض نظريا أن تقوم بتمثيلهم، ضمن النموذج الوحدوي الشمولي لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد انتقاله إلى الأرض المحتلة. وقد برز هنا التناقض الداخلي للنموذج بوضوح كون المشغل هو وزارة التربية والتعليم، أي الحكومة، خاصة بعد تماهي السلطة الفلسطينية مع منظمة التحرير.  فنموذج منظمة التحرير الفلسطينية يسعى «لتنظيم» المجتمع في هيئات ومجالس ونقابات واتحادات «عامة» و»عليا» وجامعة ودامجة تقف على رأسها، بعد أوسلو، السلطة الوطنية الفلسطينية. غير أن نموذج منظمة التحرير لم يصمم لحكم شعب على أرضه وإنما لغرض تمثيل الفلسطينيين في الداخل وفي الخارج، ولغرض الحفاظ على الكيانية الفلسطينية وحقوقها في أرضها المحتلة، ولغرض صيانة حق العودة أيضا. فكما هو معروف، لم تكن منظمة التحرير مكونة فقط من فصائل وتنظيمات، أو من تشكيلات سياسية، وإنما تكونت بنيتها أيضا من نقابات عمالية ونقابات طلابية ونقابات للمعلمين واتحادات للمرأة وللكتاب والصحافيين، وهكذا. وتكونت المنظمة أيضا من مؤسسات إنتاجية ومراكز أبحاث وهيئات متنوعة أخرى. وكانت مقتضيات النضال الوطني والبقاء في الشتات خاصة وتجميع طاقات المجتمع الفلسطيني تبرر تنظيما شاملا جامعا مثل هذا. وكانت منظمة شمولية مثل منظمة التحرير ضرورية كذلك للحفاظ على الهوية الجماعية للفلسطينيين، وللحفاظ على الذات وتحديد ماهيتها إزاء الإقتلاع والنفي والتشرد والتهديد بالإندثار. وهنا استقر تعارض النقائض، هنا كمن التناقض الداخلي في نموذج منظمة التحرير الفلسطينية، وإن كان ذلك ضرورة لا مفر منها في غياب سلطة فلسطينية تحكم شعبا على أرضه. فقد احتوى هذا النموذج مكونين أساسيين لا يجتمعان إلا قسرا داخل أطر الدولة:  مجتمع مدني تعددي قيد النمو، زُجَ به داخل دولة قيد الإكتمال. فبحكم التعريف فإن حيز المجتمع المدني يبدأ حيث ينتهي حيز الدولة، وإن كان الحيز الأول يملك استقلالا نسبيا وليس استقلالا مطلقا عن الثاني. وفي غياب دولة على أرضها، وفي أوضاع الشتات، استمر هذا التعايش مع هذا التناقض كضرورة آنية لا خيار فيها. ولكن، بعد تأسيس كيان سياسي جديد ونشوء سلطة فلسطينية على أرض فلسطين بعد أوسلو، بان بوضوح أكبر تبعات هذا النموذج الوحدوي الشمولي الدامج والجامع على تطور التنظيم المجتمعي المستقل عن الدولة، خاصة في ظل ضعف الأحزاب السياسية وشلل المعارضة داخل منظمة التحرير، ومتطلبات الإتفاق مع إسرائيل. ويبان الآن بوضوح التناقض الداخلي لهذا النموذج، كون اتحاد المعلمين ما زال ضمن أطر منظمة التحرير التي بعد تماهيها مع السلطة الفلسطينية، «تمثل» المعلمين في إضرابهم ضد نفسها! وكان عدم تقديم الأمين العام للإتحاد إستقالته إلى الجمعية العمومية للإتحاد، أو لمن يفترض أنه يمثلهم، إعترافا ضمنيا ولكن صريحا للغاية بأنه لا يمثل في الواقع القاعدة العريضة للمعلمين، وإنما يمثل أطر منظمة التحرير الفلسطينية، التي هي الحكومة في الواقع المؤسساتي لبنية السلطة الفلسطينية. وكان هذا فهم الحكومة أيضا إذ اعتُِبر أن هذا الإضراب ورفض ما عرض من قبل الحكومة، أنه موجه ضد منظمة التحرير الفلسطينية، كما جاء في تصريح رسمي لوسائل الإعلام. وهذا في الواقع كلام صحيح، إذ لا يعقل أن تضرب أطر المنظمة ضد نفسها. وخلال الأعوام الماضية، برزت في الحيز العام مطالب عدة تدعو لفصل منظمة التحرير عن السلطة الفلسطينية. وكان هذا المطلب أساسا مطلبا سياسيا فقط يتعلق بالحاجة لإصلاح المنظمة وإدخال فصائل وأحزاب غير ممثلة فيها، وإبقاء حرية العمل للمنظمة مع استمرار الإحتلال. وقد أدرج هذا المطلب ضمن جميع الإتفاقيات الشاملة التي وقعت حتى الآن، من إتفاقية القاهرة الأولى التي وقعت في آذار من العام 2005 حتى آخر إتفاقيات القاهرة التي وقعت في أيار من العام 2011. ولم يجر الإلتفات إلى الحاجة الملحة أيضا لإبقاء الأطر والنقابات والإتحادات الشاملة والدامجة والجامعة لغرض تمثيل الشتات فقط وليس لغرض تمثيل شعب على أرضه في النطاق غير السياسي، أي في النطاق المدني والنقابي تجاه السلطة الفلسطينية، أو لأغراض الفصل بين المؤسسات المجتمعية والسلطة السياسية. وربما ستكون إحدى نتائج إضراب المعلمين الحالي أن يتم هذا الفصل بين إتحاد المعلمين في الداخل واطر منظمة التحرير. ولا شيء يمنع بالطبع أن يكون لدى أحزاب وفصائل منظمة التحرير أطر نقابية داخلية تمثل أعضاءها في غير الأمور السياسية. ولكن لا يمكنها ادعاء تمثيل المعلمين كافة في هذه الحالة، أو عدم استخلاص العبر الضرورية والإستمرار في إدعاء تمثيل المنظمة للكتاب والصحافيين والعمال والطلاب والمرأة، إلى آخر مهنة أو حرفة في الأرض المحتلة، والإبقاء على هذا التناقض الواضح والبين. فكل إضراب أو احتجاج على سياسات الحكومة سيبان على أن أطر وهيئات المنظمة تحتج على نفسها. أو أن هذه الأطر ستبقى حبر على ورق كما هي الآن. *دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية، جامعة بيرزيت.