في العام الماضي ، وقّعت إسرائيل واليونان اتفاقا للتدريب العسكري المشترك، يتضمن زيارات متبادلة لضباط وجنود من الطرفين. كما اتفق البلدان على كيفية استخراج واستثمار الغاز المكتشف في البحر المتوسط، وتنسيق الجهود لمواجهة الدول الشريكة في هذا الغاز (تركيا، لبنان، فلسطين)، تلاه اتفاق آخر وُقع في نيقوسيا نهاية الشهر الماضي، ضم إسرائيل واليونان وقبرص، لتطوير ومأسسة التعاون بين هذه البلاد. وفي زيارته الأخيرة للمنطقة (كانون الاول 2015) التقى رئيس الوزراء اليوناني «تسيبراس» القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية، ولكنه حين وقَّع في كتاب الضيوف في مقر الرئيس الإسرائيلي في القدس خطَّ عبارة: «مع عظيم الشرف أن أكون في عاصمتكم التاريخية»، وهو بذلك أول رئيس في العالم يعترف بالقدس عاصمة تاريخية لإسرائيل (حتى لو كان ذلك بشكل غير رسمي). وفي تطور غريب، أعلنت اليونان معارضتها لإجراءات الاتحاد الأوروبي بشأن بضائع المستوطنات الإسرائيلية، وقادت مع هنغاريا معارضة القرارات الأوروبية الخاصة بهذا الشأن. وفي أثناء مشاركته في مؤتمر «تحديات استراتيجية شرق المتوسط» الذي عُقد في مركز دراسات بيغن/السادات (وهو مركز إسرائيلي يميني)، هاجم وزير الدفاع اليوناني «كامنوس» ما سماها مشاريع «الهيمنة التركية» و»التجديد العثماني»، مدعيا أن السياسات التركية إزاء إسرائيل واليونان وقبرص ليست سليمة، وتتناقض مع القانون الدولي، ولا تشكل عامل استقرار، ومتهما إياها بتسريب المهاجرين السوريين إلى أوروبا، وتسهيل حركة داعش، وأنها أرادت توريط «الناتو» مع روسيا حين أسقطت الطائرة الروسية. هذا التقارب اليوناني/الإسرائيلي يُعدّ كسباً دبلوماسياً للجانب الإسرائيلي. ومن جهة ثانية، فإنه يشكل ضغطا على تركيا للإسراع في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، ويعطي إشارة بأن إسرائيل قادرة على التحالف مع روسيا أيضا، خاصة إذا استمر التوتر الروسي/التركي، ما يعني ضمنا، التهدئة مع إيران، وهؤلاء الأطراف هم خصوم تركيا التقليديين. لكنه بالنسبة لليونان والتي تمر بأزمة اقتصادية من العيار الثقيل، أرادت من خلاله أن تتحالف مع إسرائيل لتحقيق مكاسب قد تنقذ اقتصادها المنهار، منها استخراج الغاز، وجذب السياح الإسرائيليين والمقدر عددهم بمئات الآلاف، وجذب استثمارات أجنبية بتسهيلات يقدمها رجال أعمال يهود. بالنسبة لتركيا؛ ورغم كل الشعارات الشعبوية المعادية لإسرائيل، فقد أنهت مؤخرا جولة تفاهمات معها، جرت في سويسرا، تقضي بإعادة وتطبيع العلاقات بين البلدين وعودة السفراء، وبموجب هذه التفاهمات ستدفع إسرائيل تعويضات مالية لأهالي الضحايا الأتراك، الذين قُتلوا في سفينة «مرمرة»، ثم تبدأ محادثات لإمداد تركيا بالغاز الإسرائيلي، نظرا لحاجتها إليه للتعويض عن الغاز الروسي الذي توقف بعد إسقاطها الطائرة الروسية، مقابل أن تلغي تركيا كل الإجراءات القضائية التي بدأتها ضد إسرائيل، وأن تتعهد بعدم إيواء قياديين في حركة حماس في الأراضي التركية، (مثل صالح العاروري). ولم يتطرق الاتفاق لموضوع إنهاء الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة. لكن مسؤولين أتراكا أطلقوا فيما بعد تصريحات صحافية لطمأنة الجماهير بأن تركيا ما زالت تدعو لإنهاء الحصار. وعلى خلفية التدخل الروسي العسكري في الأزمة السورية، وتعاظم دور روسيا الإقليمي على حساب الدور الذي ظت تلعبه تركيا منذ بدء سنوات، وبعد تدهور علاقات تركيا بروسيا (الشريك الاقتصادى الكبير) ورفض روسيا لكافة محاولات تركيا لإصلاح الأمر، وشعورها (أي تركيا) بأن حلفائها بما فيهم «الناتو» غير مستعدين للتورط في حرب مع روسيا، وبعد تراجع قدرتها في المواجهة مع الأكراد، خاصة بعد فشل خططها لإقامة منطقة حظر جوي على الحدود مع سورية، لمنع الأكراد من قيام حكم محلي أو إدارة ذاتي، بعد كل هذه المتغيرات أدركت تركيا ضرورة تصفير مشاكلها مع دول المحيط بضمنها مصر وبالطبع إسرائيل، وضرورة تبني خطط جديدة تقوم على التعاون مع إسرائيل. ومن ناحية متصلة، فإن تقاربها مع إسرائيل، يأتي في سياق تحالفهما الغازي/ الأمني القائم منذ مدة. أما بالنسبة لإسرائيل والتي ستحاول تنسيق عمليات استخراج الغاز مع كل من قبرص واليونان بما يضمن سيطرتها وتفوقها، في مواجهة كل من لبنان ومصر؛ فبالإضافة لمكاسبها الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية من تطبيع علاقاتها مع تركيا، فإنها ستبدو بمظهر العنصر الإقليمي الأقوى، الذي تسعى كل الأطراف لطلب ودها. أما إيران، فقد نجحت في إنجاز الملف النووي، وإنهاء خلافها مع أميركا والاتحاد الأوروبي، واستعادة شبكة علاقاتها التجارية والدبلوماسية مع العالم، والخروج من عزلتها السياسية، وهي تستعد الآن لاستقبال استثمارات أجنبية تقدر ب50 مليار دولار. خلاصة القول، أن اليونان بعد أن حسدناها على شجاعتها حين قالت «لا» كبيرة لاشتراطات البنك الدولي المذلة، وجدت نفسها أمام واقع صعب، فبدأت تبحث عن مصالحها، وتفتش عن حلول واقعية، ومثل كثير من الدول سترى في إسرائيل مدخلا قويا للوصول إلى أمريكا والمجتمع الغربي، فيونان اليوم، ليست يونان «أندرياس باباندريو» التي استقبلت ياسر عرفات. وتركيا التي صفق لها الكثيرون، واعتبروها راعية المشروع الإسلامي «السني»، والداعمة للمقاومة، وغيرها من الخطابات الشعبوية، هي أيضا تبحث عن مصالحها، حتى لو كانت مع إسرائيل. وإيران تصالحت مع «الشيطان الأكبر»، وتناست كل شعاراتها الثورية في سبيل مصالحها .. من حق كل دولة أن تبحث عن مصالحها، ولكن، آن لنا أن نتوقف عن السماح للآخرين بخداعنا بشعارات براقة، وأن نبدأ نحن بالبحث عن مصالحنا القومية. فالإقليم يموج بالحركة، وأي فراغ يتركه العرب تملأه على الفور دول أخرى، فالسياسة لا تقبل الفراغ.