تجميل الموت

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة


 


مع بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا، انتشرت مقولات وشعارات تمجّد الشهادة، وتدعو للتضحية، وبذل المزيد من الدماء، بحجة أنَّ أي شعب يريد الحرية لا بد أن يضحّي، وعليه أن يقدم مليون شهيد على الأقل، وهناك نموذج الجزائر وفيتنام.. إلخ.
مع أنَّ تلك المقولات كانت بهدف امتصاص نقمة الناس، والتقليل من شأن الخسائر، وتبرير منهج «حماس» العسكري المغامر.. بيد أنها على الأقل كانت تعترف ضمنا بأنها خسائر أليمة، وأنّ ما حدث كان نتيجة سوء تقدير للموقف، واجتهادا خاطئا.. ومع ازدياد أعداد الشهداء وبشكل مهول وغير مسبوق وغير متوقع.. ودون أي منجزات سياسية أو نتائج تستحق تلك التضحيات، لم تعد تلك المقولات التبريرية كافية لتسويق مشهد القتل، أو التخفيف من وقع خبر الموت، أو الادعاء بتحقيق نصر، وصار لا بد من البحث عن مقولات جديدة.. مثل تأجيل قطاف نتائج المغامرة العسكرية، فبعد أن كانت الادعاءات بأن النصر وشيك، وفي القريب العاجل، ولما تأخر هذا اليوم الموعود صار لزاما تأجيله إلى أمد غير معلوم، وأننا سنلمس النتائج في المستقبل (المجهول والغامض والمؤجل والبعيد).
أما الـمَخرج الأفضل والأسهل فهو كالعادة: ترديد المقولات الغيبية (المبنية على تصورات دينية إما بحسن نية، أو كمنهج تبريري)، وتوظيف الدين (بإسقاطات أيديولوجية وتأويل سياسي للنص المقدس) بحيث يتم تجميل الموت، وكأنه حدث جميل ومشتهى، ويتمناه كل مؤمن، ويسعى إليه كل مجاهد.
في البداية، سمعنا ذلك الدعاء الغريب الذي لم يرد في الأثر: «اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى»!
ثم راجت مقولات أخرى مثل: «يا أهل غزة، لقد صعبتم علينا الجنة».. فيما نشر نشطاء مقاطع على «النت» يحسدون أهل غزة على عيشتهم (موتهم)، لأنهم ضمنوا الجنة.. وداعية إخوانية تقول: «يوجد باب في الجنة اسمه باب غزة، يصعدون وينزلون إليه كل يوم..». ونشر آخرون صوراً لجثامين شهداء يزعمون أنها لم تفسد، ولم تتحلل! ولا نعرف لماذا هذا الشهيد بالذات، دون الستين ألف شهيد الذين إما تقطعت أجسادهم، أو سُحقت تحت الردم.. وداعية يتحدث عن الضحايا والدماء المسفوكة مع ابتسامة مصطنعة وتعابير وجه تنم عن آخر رواق وسعادة ورضا لأن هؤلاء الآن في الفردوس الأعلى، ويصف مشهد مقتلهم بأنه مسك فايح! ولا أعرف لماذا لم يلحق بهم! طالما أنَّ الموت جميل إلى هذه الدرجة! وداعية آخر يشكر «نتنياهو» (نعم نتنياهو) لأنه بحربه على غزة أدى إلى صحوة الأمة، فقد تحجبت نساء كثيرات بسبب أخبار حرب غزة.. وآخر يشكر أهل غزة قائلا: «أطفالكم الشهداء كانوا سبباً في دخول أوروبيين وأميركان للإسلام».. ومقطع فيديو يزعم أن ملاكاً ظهر على صهوة حصان بشكل غيمة يجوب سماء غزة! وفيديو لشيخ يزعم أنه رأى النبي الكريم في المنام وهو يجهز جيشا من الصحابة ويأمرهم بالذهاب إلى غزة.
إضافة إلى منشورات ومقالات تروج لفكرة أنّ ما حدث في غزة من قتل وتدمير ونزوح وتشريد.. إنما هو قضاء وقدر مكتوب سلفا، وأن مصير غزة مقدر كما هو حاصل حتى لو لم تقم الحرب! وأن جميع من ماتوا كانوا سيموتون بأمر من الله سبحانه لأن آجالهم انتهت... ولا نعرف لماذا كان سيموت 20 ألف طفل غزاوي حتماً، وهم في عمر الورود! هل كتب على عشرات الأطفال أن تبتر أطرافهم وأن يفقدوا أهاليهم؟؟ أم هذا كله من فعل البشر، من إجرام الصهاينة، ومن سوء تدبيرنا! هذا ليس مجرد تأويل ساذج ومضلل لمفاهيم القضاء والقدر، وكأنَّ نتنياهو وجيش الاحتلال ينفذان إرادة عليا.. هل هناك إسفاف وهراء أكثر من هذا؟!
حقيقة، إن هذا الخطاب الغيبي والمغيّب يضر بأهل غزة (حتى لو كان بحسن نية عند البعض)، ومن شأنه إطالة أمد العدوان، والأهم أنه يمنع تبلور أي ردة فعل شعبية أو عالمية، ويمنع إدانة الاحتلال.. فطالما هذا هو القدر، والناس سعداء بموتهم، واختاروا الموت للصعود إلى الجنة؟؟ فلمَ الغضب! وعلى ماذا سنعترض؟
كل هذا الدمار والخراب وتلك الدماء الزكية والخسائر البشرية الهائلة سببها حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال ظلماً وعدواناً.. وعلينا أن نتحمل المسؤولية بشجاعة ونبل ونعترف بأخطائنا وأن كل حساباتنا ورهاناتنا كانت غير صحيحة، وساذجة، واعتمدت على الأوهام والغيبيات.
ما هو حاصل في غزة مقتلة وموت وخراب لم تسبقها خطة مدروسة، ولن تنجم عنها النتائج المرجوة، لأن من قرروا خوض الحرب خاضوها دون تدبير ولا استعداد، وما زالوا يتهربون من تحمل أي مسؤولية.. ولإخفاء عجزهم يسمون كل هذا الموت شهادة، وطريقا مضمونا إلى الجنة، ليبرئوا أنفسهم من الدماء التي سالت بلا هدف ودون مقابل، وليُلبِسوا الفشل ثوب البطولة.
صحيح أنَّ أهل غزة يحبون الجنة، مثل كل المؤمنين.. ولكنهم في الأساس يحبون الحياة، مثل كل البشر، بمن فيهم المؤمنون.. يحبون بلدهم وأنفسهم وأولادهم، ويحبون أن يحظوا بحياة طبيعية، يربون أطفالهم بأمان، ويكبرون على مهل وباطمئنان.. وهذه أبسط حقوق الإنسان، وأقدس مقدسات الدنيا والآخرة.. نعم الحياة بحد ذاتها، والتمسك بها والدفاع عنها.  
كل من فقد حياته في هذه الحرب العدوانية فقدها بسبب جريمة قتل منظمة ومكتملة الأركان، ويجب من الآن تسميتها باسمها الصحيح: جريمة قتل، وراءها قاتل ومجرم، ويجب أن يُحاسَب.. ومن المفترض أن تثير فينا الغضب والحزن، وأن تدفعنا للرد بالشكل الصحيح.. لا أن نتقبلها بالفرح والسرور.. ولا نجمّلها تحت أي شعار.