بما أنّ المجلس المركزي الفلسطيني قد استنكف عن الانعقاد على مدار كل شهور هذه الحرب العدوانية الطويلة على كل ما هو/ ومن هو فلسطيني، وبما أنه كان بإمكانه أن يختار نائباً لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية في أي دورة له قبل الأخيرة، يصبح السبب الوحيد لعقدها هو أن يتم هذا الاختيار، بصرف النظر عن آلية هذا الاختيار، إن كانت انتخاباً أو تفويضاً.
وبما أن اللجنة المركزية لحركة «فتح» قرّرت تفويض الرئيس بهذا الأمر، أي أن يقرّر من هو النائب، ولا أدري لماذا تقرّر (ل/م) لـ»فتح»، وليس بالتشاور أو التوافق مع 13، أو 14 من أعضائها، وبما أن النائب يجب أن يكون من بين أعضاء «م.ت.ف» المشاركين عن «فتح» فيها، يصبح القرار محصوراً بين حسين الشيخ وعزّام الأحمد.
وبما أن الشيخ هو الذي يشغل منصب أمين سرّ «م.ت.ف»، وهو منصب يمثل ويوازي منصب النائب، يصبح قرار الرئيس هو أن يتمّ تعيين الشيخ كنائب لرئيس «م.ت.ف» بمثابة تحصيل حاصل.
نستنتج من هذا كله القضايا التالية:
أوّلاً: أن التوجّه بانتخاب نائب لرئيس «م.ت.ف» قد جاء ــ كما بات واضحاً ومعلناً ومعروفاً ــ برغبة أو ضغوط أو «تمنيّات» خارجية، عربية كانت أو أجنبية، بدليل أن هذا الأمر، كان مطروحاً قبل الآن، وقبل الحرب، ومنذ عدّة سنين، لكنه لم يرَ النور إلّا من خلال هذه الدورة بالذات.
باختصار نحن أمام حالة «إملاء» لا تحتاج إلى اجتهادات خاصة، ولا تستطيع «اللغة» إسعافنا على هذا الصعيد.
هل يليق هذا بنا؟
الجواب: لا يليق.
ثانياً: بين موعد الإملاء هذا، وتاريخ انعقاد هذه الدورة كان ممكناً أن تجري مشاورات وحوارات وطنية يشارك بها ــ على مستوى الفصائل على الأقلّ ــ الطيف السياسي على المستوى الوطني، وكان ممكناً أن يفضي هذا كلّه إلى شكل من أشكال التوافق الوطني، وربما على نفس توجهات (ل/م) لـ»فتح»، بل وربما على نفس قرار التفويض، لكن شيئاً من هذا لم يتمّ.
فهل يليق هذا بنا؟
الجواب: لا يليق.
ثالثاً: أعود لـ (ل/م) لـ»فتح» وأسأل:
هل القرار باختيار نائب رسمي لرئيس «م.ت.ف»، في ظل ظروفه وملابساته بسيط إلى درجة لا تستوجب أن تتوافق اللجنة المركزية من خلال حوار معلّل، ومن خلال إبداء رأيها، وربّما، وبنفس القرار الذي تعرفه؟
وماذا كان يضيرها بأن يكون قرارها هو أنها تختار الشيخ باعتباره يشغل أصلاً منصب أمين سرّ «تنفيذية المنظمة»، وباتت له خبرة كافية في هذا المجال؟
في زمن سابق كان اجتماع (ل/م) لـ»فتح» حدثاً سياسياً وطنياً. وكان الإقليم كلّه يهتم وأحياناً يترقّبه. وكانت قراراتها تعتبر وتحسب على أنها بوصلة العمل السياسي الوطني الفلسطيني كله، وكان وقعها يتجاوز الشأن الوطني إلى الإقليمي والدولي في أحيان كثيرة، فهل يليق بنا أن، وبـ(ل/م) لـ»فتح» كل هذا «الهدوء» وهذه «السكينة» في قرارات مفصلية؟
في زمن سابق كانت «الطُوَش» في اجتماعات (ل/م) لـ «فتح» أحد أهم وأكبر معالم حيوية المؤسسات الوطنية، وكانت، أيضاً، أحد أهم هذه المؤسسات، وكانت الاجتماعات عند مفاصل ومنعطفات خاصة تعقد لساعات طويلة من الحوار، وتُرفع وتعود للانعقاد، وكان يتسرّب منها الكثير من مضامين ذلك الحوار، وكانت الحياة الداخلية للحركة فخورة، ومزهوّة بتلك الحوارات. وكانت الساحة الوطنية كلها تتشرّب وتتفاعل مع تلك المضامين، وتشعر وتستشعر الحالة الصحّية للحركة وللمؤسّسة القيادية العليا فيها.
فهل يليق بنا التخلّي عن هذه الأجواء التي كانت تتفوّق بها الحركة على معظم مؤسّسات العمل السياسي في الإقليم كله، بل وربّما على الكثير الكثير من مؤسّسات العمل السياسي في أوروبا نفسها؟
الجواب: لا يليق، ولا يجدر أن يليق.
أعود وأسأل: ألم يكن الرئيس جزءاً حيوياً وفاعلاً من تلك الحوارات في (ل/م) لـ»فتح»؟ بل ألم يكن صاحب وجهة نظر خاصة لم يتردّد يوماً في طرحها بكل صراحة ووضوح، ولم يكن إلّا مدافعاً عنها بكل ثبات، وبكل إصرار؟
ألم يرجّح في بعض أهم وأكبر وأخطر مفاصل العمل الوطني صوت الرئيس أبو مازن القرارات المصيرية؟
ألم تكن قرارات (ل/م) لـ»فتح» بـ(النصف+واحد)، في أخطر مراحل العمل الوطني الفلسطيني كله؟
الجواب: نعم، هكذا كانت (ل/م) للحركة.
واضح لكلّ من يُبصر، ولكلّ من هو صاحب بصيرة حاضرة أن المسألة لم تعد محصورة في (ل/م) للحركة إذا أردنا الصراحة والحقيقة كلها.
فنحن لم نعد نسمع صوت «تنفيذية المنظمة» إلّا لماماً، وفي أغلب الأحيان في مناسبات تقليدية باتت معروفة، وبلغة روتينية مكرّرة تفتقد لروح المنظمة التي عرفناها، وللحيوية التي كانت عليها، وتتميّز بها.
وواضح أن «المركزي» أصبح وتحوّل إلى هيئة صادرت عملياً صلاحيات المجلس الوطني الفلسطيني، وواضح أن عقد الأخير ــ إذا ما تم عقده ـ فلن يُعقد إلّا لترتيبات داخلية، وليس لرسم السياسات الإستراتيجية التي تربّينا عليها.
باختصار فإن المؤسّسات الفلسطينية بدأت تفقد دورها، ويتلاشى بريقها، وتتحوّل إلى هياكل أقرب إلى الشكلية من حيث الدور والمكانة والبنية.
والحال لا يتوقّف هنا، إذ بات واضحاً أن مؤسّسات العمل الوطني في غالبيتها الساحقة هي مؤسّسات فقدت روحها الداخلية النشطة، وتحوّلت إلى ساحات خطرة من الفردانية والتفرُّد، وغياب الصراع الداخلي الصحّي، وتحوّلت الهياكل في معظمها، إن لم نقل في كل مؤسّسات العمل الحزبي والسياسي الفلسطيني إلى «أشكال» فارغة ومفرّغة من الفكر، والمحاججة، ومن تلاقح الأفكار وإنتاجها، وأصبحت وظيفتها المصادقة على رغبات قياداتها، والاستجابة لمصالحهم، وتبرير هذه المصالح، المكرّسة على هيئة امتيازات [لا يجوز] المسّ بها.
كأننا على أبواب «هذا إذا كنّا ما زلنا هنا» مرحلة تحلُّل المؤسّسات الوطنية، وجفافها قبل أن تتيبّس بلا رجعة وتموت فيها الخضرة وينعدم فيها النموّ والازدهار.
المؤسّسات الوطنية تودّع مرحلة طويلة من الكفاح الفاعل، والمقدّر لها، لكنها لم تعد قادرة على العطاء المطلوب في هذا الزمن الصعب، وإلى أن تتنحّى جانباً، وتُخلي مكانها لمؤسّسات تستجيب لتحديات العصر الفلسطيني الجديد، فإن حركتنا الوطنية كلّها ستعيش في مرحلة هي الأصعب عليها منذ قرن كامل من الكفاح الوطني.