"أنابيب الغاز الطبيعي" أدوات الصراع الخفي في الشرق الأوسط

التقاط
حجم الخط

تعتبر التأثيرات الجغرافية لبلدٍ ما على محيطها الإقليمي والساحة الدولية، عوامل أساسية في صناعة توازن القوى مع الخصوم الإقليميين والدوليين، ومنطلقاً لرسم السياسات الاستراتيجية، التي يعتمد عليها أي بلد يتمتع بتلك المؤثرات في إدارة مصالحه القومية على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي.

إذ لا تقتصر حسابات القوة على الجانب العسكري للدول فحسب، بل يقاس معها أيضاً تأثيرات الدول الدينية والعرقية والثقافية والتاريخية والجغرافية والاقتصادية والاجتماعية على محيطها الإقليمي وعلى الساحة الدولية.

ولفهم الأزمات المتعاقبة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، ينبغي للقارئ والمتابع للشأن العربي والخليجي فهم الخريطة الجيوسياسية، أو تأثير جغرافيا دول المنطقة على محيطها الإقليمي، وربط مجريات الصراعات القائمة في المنطقة مع ما تشهده الساحة الدولية من منافسات ومحاولات الهيمنة التي تخوضها القوى العالمية الكبرى على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، ضمن خريطة واضحة المعالم لنفوذ تلك القوى والدول، بسبب وجود حدود مشتركة ومصالح مشتركة لدول الشرق الأوسط مع القوى الكبرى، المتمثلة بالولايات المتحدة والدول الأوروبية وروسيا، كما يحيط دول المنطقة حزام إقليمي يتمثل بتركيا وإيران وإسرائيل، يلقي بتأثيره التاريخي والثقافي والمذهبي والاقتصادي والعسكري على واقعها بشكل مباشر.

الصراع الدائر حالياً في سوريا، واحدٌ من أكثر الصراعات دموية وتعقيداً في تاريخ المنطقة العربية الحديث، وتعود مآلات تلك التعقيدات في المشهد السوري، إلى العوامل الجيوسياسية أو التأثيرات الجغرافية على السياسة الإقليمية والدولية، التي أجاد نظام الأسد الأب والابن في سوريا اللعب على تناقضاتها والاستفادة منها، لتكون جزءاً مهماً من أنظمة التحصينات التي أسسها النظام خلال العقود الماضية، خشية من أية تهديدات قد تواجهه من الداخل أو الخارج.

ومع اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد في دمشق، أدرك الأسد منذ الساعات الأولى للاحتجاجات بأنه مقبل على مرحلة من الصراع مع الشعب السوري، ستحدد مصيره على غرار الثورات التي أطاحت بنظام مبارك وبن علي والقذافي، ورأى في قمع المتظاهرين ودفعهم على حمل السلاح، السبيل الأمثل لتدويل القضية السورية، وجعل مصير نظامه في نهاية المطاف مرهوناً بنتيجة الصراع بين القوى الإقليمية والدولية على أرض سوريا، وهو ما قد يستغرق سنوات طويلة، تمنحه فرصة النجاة من الإطاحة بنظام حكمه، وتكسبه أوراق حماية إضافية، وفقاً للمتغيرات التي سيفرضها ذلك الصراع.

- الصراع الدولي على الغاز الطبيعي

تعتمد الدول الصناعية الكبرى على الغاز الطبيعي في توليد الطاقة والكهرباء، وللغاز الطبيعي أهمية كبيرة، وتأثير مباشر على الاقتصاد العالمي وعلى الأمن والسلم في العالم، شأنه كشأن باقي الموارد الطبيعية، التي تسعى القوى العظمى للهيمنة على منابعها وطرق إمداداتها كسلاح ٍاستراتيجي يدخل ضمن حسابات القوى، كالنفط والمعادن والمياه وغيرها من المواد الخام.

وفي هذا الإطار، تمكنت روسيا كأكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، من فرض عنصر تهديد إضافي على دول غرب أوروبا ودول حلف شمال الأطلسي؛ بسبب اعتماد تلك الدول على الغاز الروسي، إذ تستورد الدول الأوروبية نحو 80% من الغاز الطبيعي من روسيا لوحدها، عبر خط الأنابيب الشمالي المعروف باسم "نورث ستريم" الذي يربط بين حقول الغاز الطبيعي شمال روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق، فيما تحصل باقي الدول الأوروبية على الغاز الروسي من خلال أنابيب الغاز الممتدة من روسيا وعبر أوكرانيا إلى الدول الأوروبية.

سعت الدول الأوروبية إلى تنويع مصادرها للحصول على الغاز الطبيعي، والتقليل من اعتمادها على الغاز الروسي إلى حده الأدنى، لتتحرر من التهديد الروسي بقطع موارد الدول الأوروبية من الغاز الطبيعي في حال وقوع صراع شامل مع روسيا، أو اندلاع صراع إقليمي شرق القارة الأوروبية، يتسبب بوقف تدفق الغاز عبر الأنابيب الممتدة في تلك المناطق والأقاليم، وهو ما حدث بالفعل خلال الأزمة الأوكرانية، حيث أوقفت روسيا تصدير الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية عبر أوكرانيا، بعد أن تدخلت روسيا عسكرياً في أوكرانيا وأحدثت صراعاً داخلياً هناك، وهو ما تسبب بحدوث أزمة حادة مع أوروبا والولايات المتحدة، الأمر الذي جعل روسيا بالتلويح بخيارات عدة في تلك المواجهة، من ضمنها وقف تصدير الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية.

وقبل اندلاع الأزمة في أوكرانيا بسنوات، ترجمت الدول الأوروبية رغبتها بالتخلص من الاعتماد على الغاز الروسي، بتدشين مشروع لنقل الغاز الطبيعي من بحر قزوين عبر أذربيجان، وعلى طول امتداد الأراضي التركية مروراً برومانيا وبلغاريا والمجر، ووصولاً إلى الحدود النمساوية، وذلك بتمويل أوروبي مشترك وبدعم أمريكي، إذ اطلق عليه اسم "خط أنابيب نابوكو".

علاوة على ذلك، سعت ألمانيا تحديداً للوصول إلى الغاز الإيراني عبر خط الأنابيب "نابوكو"، إلا أن العقوبات الاقتصادية وصعوبة التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة حول برنامج إيران النووي آنذاك، حال دون الشروع بالتعاقد مع إيران لتوريد الغاز إلى أوروبا وألمانيا.

ردت روسيا على مشروع خط الأنابيب الأوروبي بتدشين خط أنابيب روسي منافس، أطلقت عليه اسم "ساوث ستريم"؛ لنقل الغاز من الحقول الروسية الجنوبية عبر البحر الأسود مروراً بالأراضي البلغارية ورومانيا والمجر، ووصولاً إلى الحدود النمساوية، وبذلك تكون روسيا قد جعلت مشروع خط الإمدادات الأوروبي "نابوكو" غير ذي جدوى اقتصادية تذكر، وتجاوزت المسافة دون الحاجة لمرور خطوط الغاز عبر الأراضي التركية.

- دور الغاز في الأزمة السورية

أدرك الروس بأن تنويع مصادر الغاز الطبيعي والاستغناء عن الغاز الروسي، بات هدفاً استراتيجياً للأوروبيين والأمريكيين، إذ لم يبق أمام الأوروبيين من خيارات سوى الحصول على الغاز الإيراني بعد رفع العقوبات الاقتصادية عنها، والحصول على الغاز القطري الطبيعي عبر مد أنبوب عبر السعودية وربطه بأنبوب الغاز العربي الذي أنشئ عام 2003 ليتم نقل الغاز المصري من العريش إلى الأردن وسوريا وربطه بمشروع "نابوكو" لتصدير الغاز إلى أوروبا، والخيار الثاني هو الحصول على الغاز القطري المسال ونقله بالسفن إلى الموانئ الأوروبية.

ومن خلال النظر إلى الصراع في سوريا من تلك الزاوية، نجد أن التمسك الروسي بنظام الأسد يحقق مكاسب استراتيجية، تتلخص في قطع الطريق على مشروع نقل الغاز القطري إلى أوروبا عبر الأراضي السورية، ومنع تركيا من الحصول على أية منافع اقتصادية من مرور الغاز القطري عبر أراضيها إلى أوروبا، كما يسمح بقاء الأسد بوصول الغاز الإيراني إلى الموانئ السورية على البحر الأبيض المتوسط، إذ تسعى روسيا لإبرام عقود مع إيران طويلة الأمد، تتمكن من خلالها روسيا من تصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا، على غرار العقود التي أبرمتها مع تركمنستان وأذربيجان للحصول على إنتاجها من الغاز بأسعار زهيدة، وإعادة تصديرها بالأسعار العالمية للدول الأوروبية.

وبعد أن فشلت روسيا في تهديد أوروبا بقطع الغاز عنها عبر أوكرانيا، بفعل الاضطرابات والهجمات المسلحة للمتمردين الموالين لروسيا في أوكرانيا، وجدت روسيا الفرصة لتفرض تهديداً جديداً لأوروبا بقطع الإمدادات، التي تسعى للحصول عليها عبر خطوط الغاز العابرة عبر سوريا إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا، بفعل المعارك والصراعات في سوريا، والتحالف مع حزب العمال الكردي الساعي لانفصال الأكراد عن تركيا، وتهديد الأمن القومي التركي بفعل الصراع مع الأكراد.

وعلى الجانب الآخر من الخليج العربي، وقعت إيران اتفاقية مع العراق وسوريا لإنشاء ما أسمته "خط الأنابيب الإسلامي"، يتم من خلاله نقل الغاز الإيراني من ميناء عسلوية المطل على حقل غاز الشمال، وهو أكبر حقل غاز في العالم، تتقاسمه إيران مع دولة قطر في مياه الخليج العربي، مروراً بالأراضي العراقية ووصولاً إلى سوريا، إذ أكدت إيران بأن "الأنبوب الإسلامي" سيؤمن كمية 20 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً للدول الأوروبية، وهو ما لا يملك خط "نابوكو" تأمينه لأوروبا، بحسب تصريحات لرئيس الشركة الوطنية للغاز الإيراني، وهو ما يتوافق مع الرؤية الروسية لاستهداف خطوط الغاز القطرية، التي تسعى لتصدير الغاز إلى أوروبا من خلال الربط بأنبوب "نابوكو".

وبحسب الاتفاقية التي وقعتها إيران مع العراق وسوريا في عام 2011 في مدينة بوشهر الإيرانية، كان من المفترض أن يبدأ ضخ الغاز بين عامي 2014 و 2016 بمعدل 110 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي يومياً، عبر الأنبوب "الإسلامي"، أي بواقع 40 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، حيث سيحصل كل من العراق وسوريا بموجب الاتفاقية على احتياجاتهما من الغاز البالغة نحو 30.25 مليون متر مكعب يومياً عبر الخط الإيراني، فيما سيحصل لبنان على احتياجاته من الغاز والبالغة 7.5 ملايين متر مكعب يومياً عبر الخط الإيراني، كما سيتم تزويد الأردن بالغاز الإيراني عبر خط الغاز العربي.

ومن هذا المنطلق، يمكن فهم استماتة التحالف الإيراني الروسي لوأد الثورة السورية والإبقاء على نظام بشار الأسد في سوريا، بمشاركة الحكومة العراقية التي دخلت فعلياً في هذا الحلف بغرفة عمليات إيرانية روسية عراقية مشتركة، لإدارة وتنسيق العمليات العسكرية في العراق وسوريا، كما يمكن فهم ما تبذله روسيا لتوريط الأتراك في الصراع في سوريا، وتحريض الأكراد في تركيا لمواصلة قتالهم ضد الحكومة المركزية، فالاستحواذ على خطوط إمداد الغاز المتجهة إلى أوروبا وإحكام سيطرتها على ما تحتاجه أوروبا من الغاز، يمنح الروس الفرصة لفرض نوع من التوازن في القوة العسكرية والاقتصادية مع الدول الأوروبية، الذي تميل كفته في الميزان لصالح الأوربيين.

وعلى النقيض، فإن إزاحة نظام الأسد وإقامة دولة ديمقراطية مرتبطة بعمقها العربي والإسلامي، سيمنح سوريا فرصة الاستقلال الاقتصادي عن المشاريع الروسية والإيرانية، والاستفادة من الدعم الخليجي للاستثمار في مجال الطاقة، وسيحرم أنبوب الغاز الإيراني من تهديد صناعة الغاز القطرية والعربية بمنع وصول الغاز القطري إلى أوروبا عبر السواحل السورية والأراضي التركية، وسيمنح لبنان المختطف من حاضنته العربية والإسلامية من قبل إيران وأذرعها في لبنان، فرصة العودة إلى العمل العربي المشترك على الصعيد السياسي والاقتصادي والتنموي.