اشتعلت شرارة مواجهة دبلوماسية غير مألوفة بين مملكة هولندا وإسرائيل، فمع اتساع رقعة المجاعة في غزة، وانسداد أفق المساعدات الإنسانية، قررت لاهاي أن ترفع الصوت، لا بالبيانات التقليدية، بل باستخدام "الفيتو الأخلاقي"، إذ أعلن وزير خارجيتها كاسبار فيلدكامب، السفير السابق لدى إسرائيل، موقفًا واضحًا وصادمًا قائلًا: "إسرائيل تنتهك القانون الدولي، وتتسبب في تجويع سكان غزة، ويجب إعادة النظر في اتفاق الشراكة الأوروبي معها".
هذا التصعيد الهولندي، الذي جاء محمَّلاً بالاتهامات القانونية والإنسانية، يفتح باب مواجهة دبلوماسية داخل الاتحاد الأوروبي، وقد يشكِّل سابقة في كيفية تعامل أوروبا مع إسرائيل في ظل حربها المستعرة على غزة.
خطوة غير مسبوقة
دعا وزير الخارجية الهولندي الاتحاد الأوروبي إلى إجراء "مراجعة شاملة" لاتفاقية الشراكة الموقعة مع إسرائيل منذ عام 2000، على خلفية استمرار الأخيرة في حظر دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، واعتبر أن هذا الإجراء الإسرائيلي يُشكّل "كارثة إنسانية وانتهاكًا صارخًا للقانون الدولي".
الوزير الهولندي، الذي سبق أن شغل منصب السفير في تل أبيب، لم يكتفِ بالتعبير عن القلق، بل أعلن أن بلاده ستستخدم حق النقض (فيتو) لعرقلة تمديد "خطة العمل" بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، والتي تُعدّ إطارًا تنفيذيًا لاتفاق الشراكة.
موقف هولندا يُضاف إلى مواقف متشددة أخرى تتبنّاها دول مثل أيرلندا وإسبانيا، واللتين تُعرفان بموقفهما الناقد والدائم لإسرائيل في أروقة الاتحاد الأوروبي.
نقاش ينتقل إلى وارسو
من المرتقب أن تُناقش هذه المبادرة الهولندية في اجتماع غير رسمي لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يُعقد قريبًا في العاصمة البولندية وارسو، حيث سيجتمع الوزراء لمناقشة قضايا عدة، من ضمنها الحرب على غزة والتوترات في أوكرانيا.
وفي مقابلة مع صحيفة "ذا جارديان" البريطانية، كشف "فيلدكامب" أنه أبلغ وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، بموقف حكومته الرسمي، الذي يطالب بتقييم جاد لمستقبل اتفاقية الشراكة، في ظل الممارسات الإسرائيلية التي وصفها بـ"غير المتوافقة مع القانون الدولي الإنساني".
البرتغال أيضًا انضمت للمبادرة الهولندية، إذ أبدت رغبتها في دراسة الاتفاق وتقييم مدى التزام إسرائيل ببنوده، وخاصة المادة الثانية التي تنص على أن العلاقة بين الطرفين يجب أن تقوم على احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية.
غزة محور النزاع
في رسالة وجهها فيلدكامب إلى كالاس، وفق موقع "بوليتيكو"، شكَّك الوزير في نوايا إسرائيل في ما يخص توزيع المساعدات الإنسانية في غزة، وأشار إلى أن النظام الإسرائيلي لتوزيع تلك المساعدات "لا يحترم المبادئ الإنسانية المتمثلة في الحياد والنزاهة والاستقلال".
وكتب قائلًا: "لا يبدو أن هذا النظام يسمح بتوزيع المساعدات دون قيد أو شرط على الأشخاص المحتاجين، وهو ما يُعدّ انتهاكًا مباشرًا للمادة الثانية من الاتفاقية".
وحمَّل إسرائيل مسؤولية عرقلة الجهود الإنسانية، لا سيّما مع استمرار القصف الإسرائيلي، وتصريحات بعض الوزراء في حكومة بنيامين نتنياهو التي تُوصف بالعدوانية، مثل ما قاله الوزير بتسلئيل سموتريتش حول "تدمير غزة بالكامل".
لم يكن موقف الوزير الهولندي محل ترحيب داخلي في بلاده، إذ سارع السياسي اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، زعيم "حزب الحرية" المشارك في الائتلاف الحاكم، إلى مهاجمته ووصفه بأنه "وزير ضعيف يقف إلى جانب المتظاهرين المناهضين لإسرائيل"، وذلك في تغريدة نشرها على منصة "إكس".
إلا أن فيلدكامب لم يتراجع، بل أكّد في تصريحات لصحيفة "بوليتيكو" أن "الوضع في غزة لا يُطاق، ولا بد من وضع حد لهذه المهزلة"، على حد وصفه.
خلفية الاتفاقية
اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، الذي دخل حيز التنفيذ عام 2000، يهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي بين الطرفين، ويُعدّ الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل.
وفي يونيو 2024، كان وزير الخارجية الأوروبي حينها، جوزيب بوريل، يخطط لتوجيه "توبيخ" لإسرائيل بعد العمليات العسكرية التي شنّتها في رفح الفلسطينية (جنوبي قطع غزة)، إلّا أن هذا التوبيخ لم يُنفّذ بسبب معارضة داخلية من بعض الدول.
وبالرغم من مطالبات متعددة من منظمات حقوقية لتعليق الاتفاقية، فإن الاتحاد الأوروبي لم يتخذ حتى الآن خطوات ملموسة في هذا الاتجاه، بما في ذلك خلال الاجتماع الذي عُقد مع إسرائيل في فبراير 2025.
وتتمتع هولندا بموقع فريد في هذا السياق، إذ تُعدّ مدينة لاهاي مقرّ محكمة العدل الدولية، ووفقًا لتصريحات فيلدكامب، فإن هذا الواقع يمنح الحكومة الهولندية "واجبًا إضافيًا" في الدفاع عن القانون الدولي وتنفيذ قرارات المحكمة، خاصة مع استمرار الحرب على غزة.
وأشار فيلدكامب إلى أن "الديمقراطيات تحارب بشكل مختلف"، مضيفًا أنه "لا يتوقع من حماس احترام القانون الدولي، لكنها ليست دولة ديمقراطية، أما إسرائيل فعليها التزامات قانونية وأخلاقية مختلفة بصفتها ديمقراطية".
انقسام أوروبي ومفاوضات متعثرة
تعكس المواقف المتباينة داخل الاتحاد الأوروبي عمق الانقسام حول كيفية التعامل مع إسرائيل، وبينما تتبنّى دول مثل ألمانيا موقفًا حذرًا لكنها بدأت بتشديد رقابتها على صادرات السلع ذات الاستخدام المزدوج، فإن دولاً أخرى، مثل أيرلندا وهولندا وإسبانيا، تدفع باتجاه تعليق العلاقات الاقتصادية.
وأشار دبلوماسي أوروبي رفض الكشف عن هويته إلى أن إعلان إسرائيل تولّيها مسؤولية توزيع المساعدات في غزة كان "عاملًا حاسمًا" في تغيير المواقف، خاصة مع تراكم التطورات التي وصفها بـ"المقلقة".
من المرجّح أن تثير خطوة هولندا سلسلة ردود فعل داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة إذا نجحت في حشد عدد أكبر من الدول لمراجعة اتفاق الشراكة أو تعليق خطة العمل المشتركة، وقد يكون لذلك تأثير اقتصادي ملموس، نظرًا لأن الاتحاد الأوروبي يُعدّ الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل.
وقد تزداد الضغوط مع اقتراب زيارة مرتقبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، وسط ترقّب لموقفه من إدارة نتنياهو، الذي لم يتلقّ حتى الآن انتقادات صريحة من ترامب رغم التصعيد في غزة.