قراءة في مذكرة التفاهم الثنائية بين الحكومتين الفلسطينية والبريطانية

image_processing20241103-43641-oz6fh9.webp
حجم الخط

بقلم د. دلال صائب عريقات

شهدنا حديثاً توقيع اتفاقية ثنائية استثنائية جديدة بين الحكومة البريطانية والحكومة الفلسطينية، في خطوة تحمل أبعادًا متعددة من حيث الشكل والمضمون، وتعكس استمرار العلاقة بين الطرفين ضمن أطر التعاون التنموي والدبلوماسي الرفيع المستوى. مذكرة التفاهم تعكس طابعاً فنياً وتنموياً غير مسبوق في تعزيزها للعلاقات الثنائية الرسمية، سنقدم تحليلاً لبنودها ولغة صياغتها لمحاولة فهم اتجاهات السياسة البريطانية تجاه فلسطين، وحدود الالتزام الفعلي بالقانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني أو مسؤولية المملكة المتحدة التاريخية تجاه القضية الفلسطينية.

مذكرة التفاهم غطت مجموعة عناوين رئيسية منها: 

* التعاون الدولي، وأكدت الالتزام بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالصراع.

* حل الدولتين، التزمت بريطانيا بحق تقرير المصير وأضافت التزاماً بالدولة الفلسطينية المستقلة كما التزمت بضرورة العمل مع مبادئ منظمة التحرير الفلسطينية وهذه سابقة مهمة للغاية.

* الشراكة ودور السلطة صاحبة الشرعية للحكم في غزة والضفة وتوطيد العلاقة مع بعثة فلسطين في لندن والشراكة في تنفيذ أجندات الإصلاح والحكم الصالح ودعم خطط إعادة البناء والتعافي الفلسطينية المستقلة. كما أكدت مذكرة التفاهم بصريح العبارة التزام الطرفين بأسس الديمقراطية بما فيها عقد انتخابات تشريعية ورئاسية في أقرب وقت ممكن في الضفة والقدس وغزة.

* التعاون الأمني: التزام بتطوير القوة الأمنية ومؤسسات السلطة الأمنية وإمكانياتها وأسس المساءلة لضمان الحقوق. 

* العلاقات التجارية والالتزام باتفاقية الشراكة التجارية السياسية لتوطيد العلاقات التجارية بين الاقتصادين الفلسطيني والبريطاني.  وتطرقت هنا بشكل غير مباشر لعلاقة التجارة والبضائع بالاستيطان غير الشرعي من خلال ذكر الالتزام بقرار ٢٣٣٤ لمجلس الأمن الدولي، لكن غاب عن لغة مذكرة التفاهم ذكر كلمة "الاستيطان".

* التعليم: بشكل مختصر أكدت مذكرة التفاهم التزام الطرفين بالعمل لتحسين التعليم لأطفال فلسطين ولكنها للأسف لم تتطرق لمسالة "الفيزا" وحرمات العديد من الطلبة الفلسطينيين من دراستهم في المملكة المتحدة بسبب تعقيدات وسياسات الحرمات من الفيزا أي حرمانهم من حقهم بالتعليم في الجامعات البريطانية برغم قبولهم بالجامعات وهذا شان ثنائي عملي. 

* التغير المناخي: التعاون شمل الموضوع الأكثر حداثة لتخفيض انبعاثات الكربون لكن مذكرة التفاهم لم تتطرق بأي شكل لكيفية التخلص من الآثار السلبية لواقع التغير المناخي والتلوث بسبب ممارسات الاحتلال. 

* الجندر: حقوق المرأة والأقليات.

* الثقافة: التعاون لزيادة التبادل الثقافي والعلمي والتعليمي.

أكدت مذكرة التفاهم على الحقوق غير القابلة للتصرف بما فيها حق تقرير المصير، وشملت الدولة المستقلة، كما أكدت على أهمية الالتزام بمبادئ منظمة التحرير الفلسطينية، وهذه سابقة في العلاقات الثنائية. بنفس الوقت نلاحظ وبرغم الأهمية الدبلوماسية وتطور اللغة، هناك خلط بين مفاهيم تمكين مؤسسات الدولة من جهة وبالإشارة لمؤسسات السلطة من جهة أخرى. أهميتها الدبلوماسية تندرج ضمن سياق يحاول فيه الشركاء الدوليون الاستمرار في دعم بناء مؤسسات السلطة الفلسطينية وتقديم المساعدات الإنسانية، دون أن ترافق ذلك مواقف حاسمة تتعلق بجوهر القضية، المتمثل في إنهاء الاحتلال والاعتراف الفعلي والصريح بالدولة. المملكة المتحدة تلتزم بحق تقرير المصير والدولة المستقلة من خلال حل الدولتين والاعتراف المتبادل، هذا الدعم لا يتجاوز سقف الخطاب إلا إذا ترجم إلى مواقف عملية حاسمة. ففي الوقت الذي يعترف فيه أكثر من 140 دولة بدولة فلسطين، تواصل بريطانيا التمسك بصيغة مرنة تقول إن الاعتراف سيأتي في الوقت الذي يخدم عملية السلام، وهي صيغة تُبقي الاعتراف رهينة للتقديرات السياسية، لا استحقاقًا قانونيًا أو أخلاقيًا.

مذكرة التفاهم تتضمن دعم معلن ولغة حضارية دبلوماسية تقدمية فيه الجديد.. دون التزامات حاسمة، الخطاب المصاحب للاتفاقية لا يخرج عن الثوابت المعروفة في السياسة البريطانية: دعم حل الدولتين، الالتزام بالقانون الإنساني الدولي، وتقديم الدعم الإنساني في القطاعات الأساسية، خصوصًا في غزة كما يدعم الديمقراطية والانتخابات. غير أن مذكرة التفاهم تتجنب – كما في البيانات الرسمية السابقة –ذكر كلمة "الاحتلال" أو " الاستيطان" أو " دولة فلسطين" أو "الأبارتهايد" أو "الانتداب البريطاني" أو "وعد بلفور" أو "جرائم الحرب"،  ولا ذكر لجريمة "الإبادة" أي تتجنب موقفاً سياسياً قانونياً جوهرياً، وعلى رأسها الاعتراف بدولة فلسطين، أو ربط المساعدات والتعاون بإنهاء الاحتلال أو احترام حقوق الإنسان.

الأكثر لفتًا للانتباه هو غياب أي إشارة في مذكرة التفاهم إلى المسؤولية التاريخية لبريطانيا في نشوء القضية الفلسطينية، سواء عبر وعد بلفور عام 1917 أو من خلال دورها كقوة انتداب على فلسطين في فترة ما بين الحربين. هذا الغياب يعكس نهجًا سياسيًا مستمرًا يسعى لتقديم بريطانيا كطرف ساهم في هيكلة الواقع الاستعماري الكولونيالي ومزق أي أفق لسيادة فلسطينية حقيقية في حدود الدولة، بريطانيا لا تعترف بأنها كانت فاعلًا تأسيسيًا في مأساة الشعب الفلسطيني وتاريخه المعاصر.

مذكرة التفاهم أشارت بوضوح للالتزام بالقانون الإنساني الدولي لكنها لم تتطرق إلى رأي محكمة العدل الدولية الصادر في يوليو 2024. تجاهل لمرجعيات قانونية دولية حاسمة، في ظل صدور رأي استشاري واضح، يقر بعدم شرعية الاحتلال ويدعو إلى اتخاذ إجراءات عملية لإنهائه، كان من المتوقع أن تنعكس مضامين هذا القرار على الخطاب البريطاني تجاه فلسطين.

من خلال مذكرة التفاهم، تُواصل بريطانيا تقديم نفسها كداعم لـ"بناء المؤسسات الفلسطينية" والتنمية الاقتصادية، دون التطرق إلى المنظومة التي تعيق تلك المؤسسات وتنتهك السيادة الفلسطينية – أي الاحتلال العسكري المستمر.

فالمساعدات تُمنح، لكن دون أن تُقرن بمواقف واضحة تجاه الاستيطان أو العدوان أو الحصار، ما يعيد إنتاج مقاربة "الإدارة الإنسانية للأزمة" بدلًا من معالجة جذور الظلم السياسي المتمثل بالاحتلال العسكري.

رغم أهمية أي إطار تعاوني يدعم الشعب الفلسطيني، فإن مذكرة التفاهم تُظهر أن التعاون الدولي – في غياب المواقف السياسية العادلة – قد يتحول إلى وسيلة للتطبيع مع الأمر الواقع، لا أداة لتغييره. الشراكة الحقيقية تبدأ حين يُربط التعاون التنموي بمبادئ القانون الدولي، وتُعاد قراءة التاريخ بروح من المسؤولية، ويُمنح الفلسطينيون ما هو أكثر من برامج: يُمنحون حقهم الكامل في التحرر والسيادة.

تؤكد مذكرة التفاهم الثنائية الجديدة أن بريطانيا لا تزال تُمسك العصا من منتصفها في علاقتها مع فلسطين، بين خطاب التعاون ومحدودية الفعل السياسي. لكن العدالة، كما يُقال، لا تتحقق بالنيات الحسنة، بل بالأفعال الواضحة. وفي هذا السياق، فإن الشعب الفلسطيني لا يحتاج فقط إلى الدعم التنموي، بل إلى اعتراف حقيقي، والتزام قانوني، وشراكة عادلة تُنهي الاحتلال وتفتح طريقًا حقيقيًا للحرية.

في جوهرها، تعكس مذكرة التفاهم استمرار سياسة "الإدارة الإنسانية للصراع" بدلًا من مواجهته سياسيًا وقانونيًا. فالدعم التنموي يستمر، والمساعدات تُمنح، لكن دون معالجة الأسباب البنيوية التي تكرّس غياب السيادة الفلسطينية، وعلى رأسها الاحتلال والاستيطان والحصار.

إن الشراكة العادلة لا يمكن أن تُبنى فقط على المشاريع، بل على اعتراف حقيقي بالحقوق، وربط التعاون التنموي بمواقف واضحة تُدين الظلم وتدعم إنهاء الاحتلال. فالمسؤولية الأخلاقية والسياسية تقتضي من بريطانيا مراجعة دورها، والتحوّل من دعم مشروط إلى موقف يُنصف التاريخ ويخدم المستقبل.

مذكرة التفاهم تشكل نموذجاً دبلوماسياً غير مسبوق على مستوى العلاقات الثنائية، بما وضعته من إطار شامل وما انطلقت منه من مبادئ قانونية ودبلوماسية تحتاج للمتابعة المفصلة للخروج من عموميات إلى جزئيات لم تطرق لها صراحة في النص إلا أن هناك فرصة كبيرة للبناء عليها إذا ما استغلت بالشكل الوطني الصحيح وبالتعاون بين سفارة فلسطين ووزارة الخارجية وكافة الأطراف ذات الصلة للاستفادة الحقيقية هذه المذكرة التي رسخت الأسس لشراكة استراتيجية بين الحكومتين الفلسطينية والبريطانية. 

كل الاحترام لسفارة فلسطين في المملكة المتحدة ممثلة بالسفير حسام زملط وفريق السلك الدبلوماسي وطاقم وزارة الخارجية الذي حقق إنجازاً أصيلاً ومتابعة تنفيذ مذكرة التفاهم مهمة تحتاج لاختصاص وتظافر الجهود للتأكيد أن ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم ليس فقط دعماً إنسانيًا أو مؤسسيًا على ورق، بل اعتراف كامل بحقوقهم، وشراكة تستند إلى العدالة، وتترجم القانون الدولي من النصوص إلى الأفعال. عادة ما تكون مذكرة التفاهم عامة ثم ينتج عنها تفاصيل نأمل أن تأخذ ما جاء في هذه القراءة كتوصيات في متابعة التنفيذ.