غزة: عقوبة التحرر من الاحتلال!

image-YFCTO8YXJ3HBXUUS
حجم الخط

أكثر من عشرة أعوام مرت على الانسحاب أحادي الجانب الذي نفذه جيش الاحتلال الإسرائيلي في أيلول من العام 2005، بقرار من رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك أريئيل شارون، من قطاع غزة، حيث تنفس الناس الصعداء، مع فجر يوم من أيام الحرية النادرة حين اختفى فيه كل جنود ومستوطني إسرائيل من كل ذرة تراب من أرض قطاع غزة، وذلك بعد سبعة وعشرين عاما من الاحتلال المتواصل للقطاع.  وكانت غزة قبل ذلك بنحو عشرة أعوام أخرى، قد فتحت أبوابها، على قدوم الزعيم التاريخي للفلسطينيين، ياسر عرفات، لينشئ أول سلطة وطنية فلسطينية، على الأرض الفلسطينية، وخلال تلك الأعوام، تنفست غزة الهواء النقي، فانطلقت بارقات الأمل والتفاؤل، حيث بدأ نفض غبار الاحتلال عن جسد غزة بتنظيف وتعبيد الطرق، وإنشاء الأبراج، وإقامة الوزارات والمؤسسات الوطنية المختلفة، ومن ثم فتح معبر رفح دون الوجود الإسرائيلي المباشر، كذلك تم افتتاح مطار ربط غزة بكل من العريش/ عمان، قبرص والقاهرة، وكان هناك رئيس وامن وطني وأجهزة، أحزاب سلطة وأحزاب معارضة، وبدت غزة كما لو كانت "هانوي" فيتنام في ستينيات القرن العشرين الماضي. وزادت البشرى مع إقامة البنوك ودوران عجلة الاقتصاد الوطني، مع الإعلان عن اكتشاف حقلي غاز، على شواطئ غزة، التي لن تكتفي بإهداء غزة ما طاب ولذ من الأسماك، وإنما غاز أيضا يكون بمقدوره أن يكفي ميزانية السلطة حاجتها من المال، دون أن تكون بحاجة لأحد، لا من الأشقاء ولا الأصدقاء. صحيح أن الأحوال بدأت بالتراجع منذ اندلاع المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين العام 2000، حيث كان لمغادرة الراحل عرفات غزة إلى رام الله اثر على مستوى الاهتمام بغزة، ورغم أن غزة بكل مكوناتها السياسية رفضت الاقتراح الإسرائيلي باعتبار انسحاب إسرائيل منها إنهاء لاحتلالها، وذلك صدا للمسعى الإسرائيلي بفصل غزة عن الضفة قانونيا وسياسيا، ما ادخل الجانبين بمفاوضات رعتها وزير الخارجية الأميركية في ذلك الوقت كوندليزا رايس، وانتهت بتنظيم المعبر وفق اتفاق خاص، إلا أن حالة الحصار الخانق لم تطبق على غزة، إلا بعد عملية الوهم المتبدد التي نجم عنها أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت. وكان حال معبر رفح، بعد تدمير مطار غزة، خلال الأشهر التي تلت انسحاب إسرائيل وحتى حزيران العام 2006 جيدا، وكان السفر ميسرا للغاية، ورغم أن ذلك العام كان قد شهد في بدايته خبرا سارا، تمثل بمشاركة "حماس" والفصائل المعارضة لأوسلو في الانتخابات الثانية، كمدخل لتوحيد السلطة، إلا أن عاما آخر بعد ذلك كان فارقا، ورغم تحمل غزة وموظفي السلطة الحصار المالي، بسبب تشكيل "حماس" للحكومة العاشرة، إلا أن الجميع قد تحمل الأمر، لأن المعاناة كانت ثمنا للوحدة الداخلية، وللصمود في وجه محاولات إسرائيل تأبيد المرحلة الانتقالية. الآن، قطاع غزة، يعاني على المستوى المعيشي كل أشكال التعب اليومي، فمنذ عشر سنوات، لم تتوفر الكهرباء، ولم يتم تعبيد الطرق، ولم يتم ترميم المستشفيات والمدارس، فضلا عن إقامة مدارس ومستشفيات جديدة، وتواصل الحصار بإغلاق معبر رفح، والمعابر بين غزة وإسرائيل، وتم قطع الصلات كافة بين غزة والضفة، ومنذ العام 2007، عانت غزة من الانقسام الداخلي على المستوى اليومي والمعيشي، فلا موظفين جددا، كما انتشرت البطالة حتى وصلت أرقاما قياسية عالمية. صحيح أن الضفة والقدس ومجمل القضية الوطنية قد تضررت من الانقسام، لكن غزة إضافة لذلك تعاني معيشيا ويوميا من كل أشكال الفقر والعزلة، وفقدان مظاهر الحرية للأفراد والجماعات، سياسيا واجتماعيا، وكأنها تعاقب على تحررها، وعلى ما قدمته كمنصة إطلاق للمشروع الوطني على مر العقود الماضية. وما زالت فصول المعاناة، مع حرب إسرائيلية بمعدل كل عامين مرة، حيث واجهت غزة ثلاث حروب غير متكافئة مع عدو فاشي، منذ انسحابه منها، أسقطت آلاف الضحايا، ودمرت آلاف المنازل والمؤسسات العامة، ومع تدهور الحالة الأمنية في جوار غزة، أي في سيناء، تأثرت غزة، إن كان من جراء إغلاق المعبر أو بانجراف التربة في رفح وخان يونس، خاصة على شاطئ البحر. عشر سنوات من التحرر من الاحتلال، ولم تتحول غزة إلى رافعة وداعم لتحرر الضفة، لا سياسيا ولا اقتصاديا، وكأن الانسحاب الإسرائيلي الأحادي منها كان حلقة في سلسلة الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكأن إسرائيل سعت إلى أن يؤدي الانسحاب إلى عزل غزة وليس إلى تحررها، فهل المشكلة تكمن فيما خططت له إسرائيل من نوايا سيئة لغزة ولكل فلسطين، أم في الجانب الفلسطيني، الذي لم ينجح في التصدي لتلك الحلقة من سلسلة الصراع، وما زال يتخبط وينشغل بالتفاصيل والخلافات، بحيث أن فكرة الانعتاق من الاحتلال باتت فكرة غير مشجعة، مع "سقوط" أهم فصيلين فلسطينيين "حماس وفتح" ليس في امتحان الشراكة السياسية وحسب ولكن في امتحان القدرة والنجاح في إدارة ما يتم تحريره، بهذا الشكل أو ذاك، من أرض فلسطين المحتلة؟!