لِنَرَ المشهد من زاوية أخرى

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 

 

يمكن فهم الموضوع على نحو أكثر بساطة، وأقصد ظاهرة التشدد والتعصب في الرأي لمن هم خارج فلسطين (وتحديداً خارج غزة)، في مسألة دعم المقاومة وتأييد «حماس»، لدرجة نكران الواقع وتجاهله، واتهام أي رأي مخالف بالخيانة والتخاذل.. ويمكنني تذكّر الطريقة غير الواقعية التي كنت أفكر بها قبل عودتي إلى الوطن منذ نحو ثلاثين سنة.. ولن أدعي أن طريقة تفكيري تمثل الجميع، ولكني أرى تشابهاً وتطابقاً بينها وبين ما ألمسه وأقرؤه الآن من تعليقات ومقالات لعموم من هم خارج فلسطين.

كان الصديق مروان بركات قد أصدر كتاباً سنة 1992 عنوانه «حرب الخليج في الصحف الأردنية»، أجرى فيه بحثاً معمقاً حول أداء الصحف الرسمية والحزبية في الأردن، منذ اجتياح الكويت وحتى بدء العدوان، وخلص بنتيجة أن جميع العناوين والمقالات وتحليلات الخبراء (بلا استثناء) كانت واثقة بقوة الجيش العراقي، وعلى ثقة كاملة بهزيمة التحالف، وانتصار صدام، باستثناء مقال يتيم حمل عنوان «غيوم ثقيلة تغطي المنطقة» اختفى كاتبه من بعدها. وكانت الجماهير تحمل نفس الأفكار والتوقعات والآمال.. لا يهم الآن من الذي غذى أوهام الآخر وخدعه؛ الجماهير أم الإعلام؟

هذا مجرد مثال لنعرف كيف تفكر الجماهير أثناء الأزمات، بطريقة عاطفية لا تترتب عليها تضحيات.

وبالعودة إلى موضوعنا، سنجد أنه منذ بدايات تفجر الصراع قبل أكثر من قرن، مروراً بانتفاضات وثورات الشعب الفلسطيني في مواجهة الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي، وانطلاقة الثورة في الـ65 وحتى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كان الموقف الشعبي تجاه المقاومة داعماً ومؤيداً بلا تحفظ، وأعتقد جازماً أنه سيظل كذلك حتى زوال الاحتلال ونيل الحرية، ولمزيد من الدقة كانت هناك وجهات نظر مختلفة ومنتقدة حول جدوى الكفاح المسلح، خاصة من قبل النخب، مع أن ممارسته كانت ضمن المعقول وفي سياق منسجم إلى حد ما مع مكونات المشهد السياسي، وضمن حدود وقدرات الشعب الفلسطيني، وجميع العمليات المسلحة التي حدثت كانت توقع إصابات محدودة في الطرف الإسرائيلي، وكانت ردود الفعل الإسرائيلية يمكن تحملها، مثل قتل المهاجمين، وهدم منازلهم، أو فرض عقوبات جماعية على المنطقة ولفترة محدودة.. وهذا الأمر مكّن من استمرار العمليات المسلحة، فضلاً على أن الرد الإسرائيلي لم يكن يشكل تهديداً وجودياً على الشعب الفلسطيني، ولم تكن حينها مخططات التهجير والترانسفير مطروحة (على الأقل علانية) ولم يكن المجتمع الدولي وحتى حلفاء إسرائيل يسمحون لها بالتمادي في الانتقام.

ما حدث منذ السابع من أكتوبر مختلف كلياً: فإسرائيل تكبدت أكبر خسارة بشرية في تاريخها في يوم واحد، وأهين جيشها، وتهدد أمنها، وهذه كانت ذريعة كافية لإسرائيل لأن تتصرف على نحو مختلف جذرياً عن كل سلوكها السابق.

مباشرة أعلنت إسرائيل الحرب، وهذا لم تفعله سابقاً سوى مرات معدودة، حتى أن اجتياحها لبنان صيف 1982 لم تسمّه حرباً، بل اعتبرته عملية عسكرية.. وكان واضحاً أنها ستستغل الفرصة إلى أبعد مدى ممكن، وستمارس إجرامها لدرجة تفوق خيال الشيطان، وستحظى بدعم دولي مفتوح، وهذا ما كان.

ويبدو أن جماهيرنا في الخارج لم تستوعب هذه الحقيقة، ولم تقرأ المشهد جيداً، وظل الاعتقاد وطريقة التفكير والتفاعل مع الحدث كما كان سابقاً.. تصفيق وابتهاج لأي عمل مقاوم، ودعوة لتصعيد المقاومة العسكرية، مع أن أثر كل أعمال المقاومة كان محدوداً جداً من الناحية العسكرية والسياسية، واقتصر على البعد المعنوي، في حين كانت ممارسات الاحتلال تفوق ببشاعتها وعنفها كل ما سبق، وبدرجة مجنونة.

هل كان بوسع إسرائيل قتل ستين ألف فلسطيني في الانتفاضة الأولى التي هزت أركان إسرائيل وأضرت بصورتها وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة؟ هل كان بوسعها تدمير المدن والبلدات والقرى الفلسطينية في الانتفاضة الثانية كما فعلت في غزة الآن، رغم أن تلك الانتفاضة كانت عنيفة وشبه عسكرية، وتسببت بمقتل أزيد من ألف إسرائيلي؟ هل كان بوسع إسرائيل حصار الضفة وإغلاق الحدود ومنع المساعدات وتجويع الناس وقصف المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس وتجريف الطرق وتدمير البيوت (كما فعلت حرفياً في غزة) حين كان الشبان ينفذون عمليات من حين إلى آخر؟

خطورة ما تفعله إسرائيل الآن لا تتوقف عند قتلها ستين ألف إنسان، وجرح وإعاقة أضعافهم (وهذه جريمة كبرى)، ولا تتوقف عند حجم التدمير الهائل (وهذه خسائر باهظة لا تعوّض)، ولا تتوقف عند حجم معاناة الناس وآلامهم وجوعهم وتشريدهم وخوفهم وبؤسهم (وتلك مأساة إنسانية فظيعة وغير مسبوقة)، الخطورة التي لا تقل أهمية تتمثل في مواصلة سعيها الحثيث لشطب قطاع غزة عمرانياً وحضارياً وتراثياً، وإعادة احتلاله (حتى لو بشكل غير مباشر)، وتحويله إلى مجرد ذكرى بعيدة.

الخطورة في طرح مخططات التهجير علانية وبمنتهى الوقاحة والوضوح، والبدء بتنفيذها فعلياً، وتهيئة الظروف لإتمامها والتخلص من الكتلة البشرية التي ظلت تمثل التواجد الفلسطيني على أرض غزة الفلسطينية، بكل ما يعنيه ذلك من أبعاد وتداعيات مستقبلية.

الخطورة فيما تفعله بالتوازي في الضفة الغربية من مصادرة أراض وتوسع استيطاني وشق طرق التفافية، وإطلاق يد المستوطنين، وإعادة الاحتلال لمناطق ومدن فلسطينية، وضم الجزء الأكبر من مساحة الضفة وتهويد القدس.. وهذا المخطط قديم، ولكن يجري تنفيذه بتسارع غير مسبوق منذ بدء العدوان، ولم يكن بوسعها تنفيذه بهذا الشكل لولا الظروف السياسية التي وفرتها الحرب، ولولا الدعم الأميركي والدولي التي وفرتها ذريعة السابع من أكتوبر، لدرجة بات مكنناً طرح موضوع التهجير. وهذا خطر حقيقي ينبغي رؤيته وعدم الاستخفاف به.

والخطورة أن تستغل إسرائيل أجواء الحرب (السياسية والإعلامية) لتصفية القضية الفلسطينية كلياً، وشطب حق تقرير المصير (بعد أن صعّدت إجراءاتها لشطب حق العودة وبالتعاون مع الإدارة الأميركية)، وخلخلة الاعتراف العالمي بالشعب الفلسطيني، وتفريغ القضية الفلسطينية من محتواها السياسي، وهذا يتطلب ضرب وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني، بإنهاء منظمة التحرير، أو بخلق منظمات بديلة، وإعادة تصوير الشعب الفلسطيني على أنهم قبائل وعشائر (متناحرة) ومجرد سكان (مشاغبين)، ومقاومتهم مجرد (إرهاب إسلامي).

طالما أن الحرب مستمرة ستظل هذه المخاطر ماثلة، وسيكون بوسع إسرائيل تحويلها إلى حقائق وعلى العالم القبول بها.. ومن الممكن أن يقبل بها.. وإذا لم يدرك الفلسطينيون ذلك، بوعي وطني مسؤول، دون مزايدة، ودون عواطف وشعارات براقة، وإذا لم ننجح بإيجاد مخرج سياسي معقول يضمن لنا الاستمرار والبقاء في أرضنا، سنصبح الهنود الحمر في الشرق الأوسط.