دروس إضراب المعلمين

thumb (3)
حجم الخط

إضراب المعلمين المفتوح، نكأ الجراح وكشف عن مشكلة حقيقية في أكثر القضايا حيوية وتأثيرا على تطور وصمود ومناعة مجتمعنا. ثمة مبدأ يقول: إن التطور يرتبط بنمط معين من التعليم، والتأخر يرتبط بنمط آخر من التعليم، فالبلدان التي أحرزت تطوراً كبيراً استندت إلى منظومة تعليم حديثة "منهجا وإدارة وطاقما وسياسات وموازنات". والبلدان المتأخرة المستبدة كبحت التطور واكتفت بالسيطرة على المجتمع وإخضاعه لسلطاتها من خلال منظومة تعليم متخلفة. نحن في تجربتنا الفلسطينية مع "العلم والتعليم" لم نكن من بين الذين أحرزوا التطور، وأقرب إلى البلدان المتأخرة، أو التي تراوح مكانها، وأحيانا نعيش حالة من التردد والانتظار والتأجيل بانتظار المجهول. البعض يعزو تأجيل البت في قضية التعليم وطرحها على بساط البحث إلى شروط الحياة تحت الاحتلال وما يترتب على ذلك من عقبات وصعوبات، قافزين عن حقيقة أن تطوير العملية التعليمية وتفعيل دور مليون وربع المليون من طلبة المدارس، يشكل أحد أهم عناصر القوة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، وأهم الروافع لتطوير المجتمع. نستطيع قراءة الوضع الراهن والمستقبلي من خلال "جيشنا" في المدارس والجامعات بالتلاميذ الصغار والكبار وبالمعلمين واختصاصاتهم، وبالإدارة ومسؤولها. الأزمة الراهنة لا تقتصر على عنصر واحد فقط، هو الظلم المزمن الذي أحاق بالمعلمين بأثر رجعي. والحل لا يقتصر على تصويب وضع المعلمين والاستجابة لمطالبهم المشروعة والمستحقة. المعالجة التي نحن بحاجة لها هي اشمل وأعم من إزالة الظلم على أهميته. فإذا أردنا التوقف عند العناصر المسؤولة عن الأزمة، وتقديم أفكار قد تساهم في إيجاد حلول واقعية نابعة من الحاجة. أولا: تعامل المستوى السياسي (المنظمة والسلطة والتنظيمات) مع التعليم بدرجة متدنية من الأهمية، وأقل بكثير من الحاجة الضاغطة. فقضية التعليم لا تطرح كقضية حيوية للتغيير والتطوير الإيجابي المنشود والمواكب للعصر، والأخطر ان التعليم يترك كساحة ومجال لتغلغل فئات ونشر ثقافة لقوى محافظة وأخرى تكفيرية عابرة للتنظيمات وللمؤسسات. أكبر دليل على ذلك أنه لا يوجد تنافس وصراع بين التنظيمات السياسية للحصول على حقيبة التربية والتعليم، كما يحدث في  دولة الاحتلال مثلا، وكما حدث مع الإسلام السياسي الذي اشترط السيطرة على التربية والتعليم والتحكم في مناهج التعليم في إطار الصفقة التي أبرمها مع الأنظمة العربية المستبدة. وكأن التنظيمات لا تريد التغيير، أو ينقصها معرفة أهمية التعليم في تجارب العالم الحديث. وبالاستناد لفهم المستوى السياسي السائد حول التعليم سابقا والآن، أُهدرت فرصة تاريخية لوضع منهج يخرج أجيالنا من الحفظ والبصم والخضوع والخوف والتعصب. ولم يتم تدارك تلك الفاجعة في السنوات اللاحقة وحتى اليوم. وما يرتبط بها من تغيير وتعديل بنية إدارة العملية التعليمية. بقيت حقيبة التربية فائضة عن الحاجة، وبقي الارتجال سيد الموقف والبنية الإدارية على حالها، وعندما انفجرت الأزمة وقفت إدارة التربية والتعليم عاجزة أمامها، وتبدت كجزء من الأزمة وليس جزءا من الحل. ثانيا: المعايير الحكومية المزدوجة في التعامل مع موظفي الحكومة "وزارات وأجهزة أمن ومؤسسات" من جهة، والتعامل مع جهاز التربية والتعليم من المعلمين والمعلمات والموظفين من الجهة الأخرى. منذ بداية تأسيس السلطة تعاملت الحكومات السابقة مع نظام تعيين بلا مواصفات وظيفية بالحد الأدنى، واستتبعت سياساتها تلك بترفيعات تستند الى عامل الزمن الوظيفي والشواغر في هيكليات لا تعمل إلا النزر القليل، الأمر الذي حول الوزارات إلى هرم مقلوب مشوه وغير منتج. وجرى اعتماد رتب عسكرية رفيعة  واستتبعت بترفيعات متواترة بمعزل عن الكفاءة والأصول، أي "جنرالات بلا جيوش"، وبنظام تقاعدي يعطي 100% من الراتب مع التقاعد المبكر. مقابل ذلك، تعاملت الحكومات السابقة مع المعلمين والمعلمات بالاستناد لأنظمة وقوانين قديمة بيروقراطية أخضعت المعلمين لظلم فادح منسوب لواقع الموظفين الحكوميين وأجهزة الأمن. ونجم عن ذلك تآكل منظومة قيم العمل وما ترتب على ذلك من صراع نفسي أشعر الفئة الثانية من الموظفين الحكوميين بالغبن وبالدونية رغم انتمائهما لمرجعية واحدة. هذا يفسر تشدد المعلمين ورفضهم البقاء ضمن المعادلة السابقة وعدم ثقتهم بالوعود. إن تسوية الخلل يكون بالمساواة بين الفئتين. إما التعامل مع المعلمين وجهاز الصحة بالمعايير والامتيازات المتبعة مع موظفي الوزارات وأجهزة الأمن. أو بالتراجع عن تلك امتيازات بأثر رجعي وتحقيق المساواة. ولما كان التمييز بوجهيه الإيجابي والسلبي لا يخدم العمل والأداء ويقود الى تشوهات خطيرة، فإن المخرج الأسلم لهذا الوضع يكون بوضع معايير مهنية موحدة وتطبيقها على الجميع، وإعطاء أولوية لرفع الظلم عن المعلمين. ثالثا: ينبغي تفهم التشدد الذي يبديه المعلمون في مواصلة الإضراب، وكأنه معركة كسر عظم من قِبَل المعلمين.  الاحتدام والتصعيد ناجم عن أزمة الثقة بالحكومة التي لم تلتزم باتفاقات سابقة، ونابع من الغبن والتمييز ضد المعلمين الذي يمتد الى العام 1994 الذي تأسست فيه السلطة. مطلوب تجاوز الحدة من أجل إزالة الظلم عن المعلمين، بالكف عن التهديد باتخاذ إجراءات عقابية، والتوقف عن التشكيك بنضال المعلمين المطلبي المشروع والنابع من معاناتهم، وعدم زجه وإقحامه في أجندات سياسية قد تكون موجودة في إطار حركة المعلمين لكنها لا تقود ولا تمثل احتجاج المعلمين بأكثريته الساحقة. وهنا يجدر طرح سؤال لماذا لم يشارك المعلمون في قطاع غزة الذين يعيشون الأزمة ذاتها إن لم يكن أسوأ في الإضراب؟ فقط يجري الحديث بعد أكثر من 17 يوما من الاحتجاجات عن إضراب رمزي. من أجل الحل مطلوب تقديم كل ما من شأنه بناء ثقة المعلمين بإمكانية تصويب أوضاعهم وبالاستجابة لمطالبهم المشروعة. بالبحث عن دعم أو قروض وخطط تقشف وضريبة معلم تقتطع من ذوي الدخل المرتفع.. وغير ذلك من إجراءات. ومقابل ذلك مطلوب من المعلمين الأخذ بالاعتبار مصالح الطلبة والخسارة التي لا تقدر بثمن نتيجة وقف العملية التعليمية. وهذا لا يعني التراجع عن مطالبهم المشروعة التي يجب الاتفاق بشأنها من قبل أكثرية المعلمين. رابعا: كشف إضراب المعلمين أن اتحاد المعلمين "المنتخب" منفصل عن الجسم العريض الذي "يمثله" نظريا، وذلك لأنه يستند الى نظام "الكوتة" الفصائلي، ويستند الى الولاء السياسي ولا يعطي أية أهمية تذكر للجانب المهني والمطلبي إلا عبر الشعارات. وقد صمم هذا النوع من الاتحادات للدعم السياسي والوطني فقط لا غير. إن تجربة اتحاد المعلمين عصفت بالنظام وبالتقاليد والأساليب المتبعة في عمل الاتحادات المهنية والشعبية التي وصلت الى طريق مسدود. ولا شك بأن تجربة المعلمين ستقود الى إعادة بناء وانتخاب اتحاد معلمين يمثل حقيقة الجسم الأكبر من المعلمين، وضمن علاقة تعاون متبادل مع القوى السياسية على قواعد عمل جديدة أساسها التخصص والاستقلال المهني كبديل للتبعية والهيمنة والطمس الذي مارسته التنظيمات وأدى إلى نتائج سلبية.