الشيء الذي بات مؤكّداً أنّ بنيامين نتنياهو يعيش حالة مزرية على كلّ الصعد، وهو بين نارين: نار الرغبة، وربّما الإرادة الأميركية بتهدئة المنطقة كلّها، ونار خوفه، والأصحّ القول هلعه من السقوط في دوّامات ستبتلع كلّ تاريخه، وليس فقط سقوط «ائتلافه الفاشي الحاكم».
وهو في مثل هذا الواقع الذي لا يُحسد عليه سيوافق ــ كما قال على صفقة مؤقّتة من دون التعهد أو الالتزام بإنهاء الحرب العدوانية والكارثية.
ليس صدفة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وقد انتفخت جيوبه بالأموال السعودية، وبعد أن عقد أكبر صفقة دفاعية في التاريخ كلّه، والحبل على الجرّار في الإمارات وقطر.. ليس صدفةً أنّه أجّل الحديث عن الأزمة في الشرق الأوسط من زاوية المخارج والترتيبات ومقدّمات الحلول إلى الدوحة، أو ربّما إلى ما بعد القمّة الأميركية الخليجية، بانتظار أن تكون المحادثات أو المفاوضات قد أفضت إلى شيءٍ يمكن البناء عليه.
نتنياهو يشتدّ عليه الخناق من كلّ الاتجاهات، وهو يحاول أن يبدو وكأنه ما زال «متماسكاً» لكن الحقيقة أنه لم يعد كذلك. ولا يهمّه كثيراً أن يظهر بصورة الجاني والمجرم أكثر ممّا ظهر حت الآن طالما أن «أهدافه» ما زالت قابلة إمّا «للتحقيق» أو ما زالت تمدّه وتغيثه بالأسباب والذرائع التي يعتاش عليها، ويواصل اللعب والتلاعب بها.
الأمر الذي يصيب نتنياهو في مقتل ليست صورة الإجرام، وإنّما صورة الفاشل.. والآن هذه هي الصورة التي تلاحقه، وهذا هو الكابوس الذي يرعبه.
لقد تأكد المجتمع الإسرائيلي في أغلبه أنّ الفشل هو عنوان كامل مرحلة الحرب الهمجية، وتأكّد أن عنوان هذا الفشل هو رئيس حكومته. ولم يقف ضده، ولم تتعال أصوات «معارضته» لأنه كان مجرماً، أو لأنه حوصر بتهمة الإجرام في هذه الحرب العدوانية، بل على العكس من ذلك فإن جزءاً من عدم «معارضته»، أو ضعفها يعود إلى إجرامية أفعاله، في حين أنّ الفشل المتتالي على مختلف الصعد هو الذي وصل به إلى الحالة المزرية التي يعيشها الآن.
يقترب نتنياهو كثيراً من ترافق صورة الإجرام، وصورة الفشل مع صورة أخرى من بدء المحاصرة والعزلة الإقليمية والدولية، وتتعالى الأصوات الأوروبية بصورةٍ نوعية جديدة للمطالبة بالضغوط الفعلية عليه.
قلنا في المقال السابق، إن المجتمع الإسرائيلي مهما كانت درجة انزياحه للثقافة السياسية «اليمينية» والعنصرية، لن يجاري نتنياهو في الاختصام مع الولايات المتحدة تحديداً، لذلك فإن اشتداد الانتقادات الأوروبية ستزيد من صورة الفشل والحصار، وستزيد من الربط بينهما وما بين الإجرام.
لا يستطيع نتنياهو الذهاب بعد عدّة أيّام إلى مناورته البرّية المزعومة وهو عالق في هذا الثالوث الجهنّمي بالسهولة التي يتحدّث بها، وهو يعرف أنّ المضيّ قُدُماً في حربه الإجرامية سيحول الامر برمّته من دائرة التبجُّح والعنجهية والمكابرة إلى دائرة جديدة من ابتزاز المجتمع الإسرائيلي حتى آخر ما يمكنه ذلك، بهدف الحصول على ضمانات أعلى إذا ما طُرح من جديد خيار التنحّي، وابتزاز المجتمع الدولي كلّه بهدف الظهور بمظهر «القوي» الذي يقاتل حتى النفَس الأخير.
الحصيلة التي يجب أن ننبّه لها هو أن الإدارة الأميركية، وبصرف النظر عن إستراتيجيات البحث عن الترتيبات والمخارج ومقدّمات الحلول، والتي يبدو أنها ما زالت قيد الإعداد والتبلور النهائيّين قد حسمت أمرها باتجاه «شرق أوسط جديد» آخر، شرق أوسط يعيد بناء نفسه على أُسس سياسية واقتصادية من خارج منطق القوّة والحروب، شرق أوسط تطمح أميركا من خلال «استقراره» النسبي، ولعدّة سنوات قادمة أن تسخّره بقدر ما هو متاح لها في خدمة إعادة بناء الاقتصاد الأميركي، وحيث أن الجانب العربي والخليجي هو المصدّر الأكبر والأهمّ من زاوية المصالح الإستراتيجية العليا لأميركا، كما ترى، وكما تتصوّر، وكما تخطّط، أيضاً، ومن هذه الزاوية فقد تغيّرت موضوعياً زاوية الرؤيا الأميركية حيال الإقليم.
الشرق الأوسط، منزوع الحروب، يشكّل مصلحةً أميركية كبرى، وليس الذي تتنازعه الحروب والقتل والدمار حسب هذه الزاوية الجديدة.
السؤال هو: هل أنّ هذا التغيّر في زاوية الرؤيا الأميركية للإقليم جاء بالصدفة، أو بسبب «صحوة» تسامحية في الفكر السياسي الأميركي الجديد؟ أم أنّ الأزمة التي وصلت إليها أميركا قد بلغت من العمق، ومن درجة الخطر ما بات يُحتّم عليها مثل هذا التغيير.
برأيي أنّ الإجابة عن هذا السؤال هي مفتاح فهم التطوّرات القادمة في كامل منطقة الإقليم، والأهمّ أنها مفتاح القياس الحقيقي لمكانة دولة الكيان الصهيوني الكولونيالي في هذا الإقليم.
صحيح أنّ الافتراقات الحالية بين السياسة الأميركية لتهدئة الإقليم وبين دولة الكيان تتركّز الآن بالافتراقات مع «الائتلاف الفاشي العنصري» بقيادة نتنياهو، لكن الأمر ليس محصوراً في هذه الدائرة فقط.
كما قلنا أكثر من مرّة فقد بات واضحاً أنّ مصلحة أميركا هي تجميد الحروب العدوانية، وتجميد منطق فرض الهيمنة بها، وهذا الافتراق هو افتراق فاقع مع «اليمين الفاشي» في دولة الكيان، ولكنه افتراق قادم مع طبيعة المشروع الصهيوني كلّه، وافتراق قادم مع مكوّنات كثيرة في الحالة السياسية الإسرائيلية من خارج منظومة «اليمين الفاشي العنصري».
المنظومة السياسية التي هي على استعداد، وما زالت تتأهّب للعودة إلى منطق الحروب الكارثية والتدميرية، وفرض الهيمنة بها حتى بعد سقوط «اليمين الفاشي» هي المنظومة الأكبر والسائدة في دولة الاحتلال.
الفرق الوحيد بين «اليمين الفاشي»، وبقية المنظومة التي تؤمن بمنطق القوة والهيمنة هو أن الأخيرة قابلة للتناغم والانسجام مع منطق أميركا، ومع مصالحها انتظاراً للفرص القادمة، ومن دون أن تكون الحروب العدوانية على جدول الأعمال المباشر.
كما أنّ هذه القوى الأخيرة لا تهدف إلى جرّ أميركا إلى حروب لا تريدها، ولا ترغب بها، وهي ستنضبط في إطار الإستراتيجية الأميركية من دون أيّ شكّ.
في هذا الإطار من الانضباط المتوقّع سيتمّ ــ كما أرى ــ التكيُّف المتدرّج مع واقع أن دولة الكيان لم يعد لها نفس الأهمية، ونفس الدور، وبالتالي نفس المكانة، خصوصاً وأن «الترامبية» لا يبدو أنها مستعدة للتنازل عن دور القائد الأعلى للمنظومة الغربية من دون أي استثناء لأحد حتى بالنسبة للحالة الإسرائيلية.
طار الشرق الأوسط الذي حلم به نتنياهو ومجموعته الفاشية المهووسة، وطار، أيضاً، الشرق الأوسط الذي تحكمه الدولة العبرية وتفرض شروط هيمنتها عليه، وطار منطق أنّها هي الوكيل الحصري الثابت للمصالح العليا لأميركا، وتحوّل كيان القوّة والهيمنة التي اعتقد «اليمين الفاشي العنصري» فيه أنه كيان المستقبل الأكيد، ولم يتبقَ منه سوى غير قيادة فاشلة ومحاصرة، إضافةً إلى «معارضة» تستمدّ قوّتها الوحيدة من درجة «إزعاج» نتنياهو، ودرجة مضايقاتها له.
أقصد أنّ هذه «المعارضة» تفتقر إلى الرؤى، وإلى السياسات التي تخرج الكيان الصهيوني من المرض العضال والذي هو الاحتلال الكولونيالي، ولا شيء قبله.
في سياق هذه الحقائق الجديدة يمتلك الكيان فرصة نادرة للخروج من هذا المأزق التاريخي بقبول أوّل انكفاء حقيقي لمشروعه الصهيوني، لكي يتحوّل إلى دولة طبيعية، بحدود طبيعية، وحياة طبيعية، ومن دون ذلك فإنّ أزمة الدور والمكانة هي في انحدارٍ مستمر، وليس هناك أيّ فرصةٍ حقيقية لأحلام وأوهام دولة الهيمنة الإسرائيلية على الإقليم، لأنّ المطروح في الأفق المنظور ليس مثل هذه الدولة، وإنّما الحفاظ ــ إن أمكن ــ على بقاء الدولة، بصرف النظر عن واقعها الحالي قبل أن تنفجر من داخلها.