لوحظ بعد مضيّ بضعة شهور على حرب الإبادة الإسرائيلية، بأن العديد من قادة الدول صاروا ينتقدون تلك الحرب بما تحدثه من قتل جماعي متعمد بحق المدنيين العزل، ومن دمار هائل بلا أي مبرر أمني أو عسكري، وقد ترافق ذلك مع مسار التحقيق القضائي الدولي في أمر تلك الحرب وصولاً الى تجريمها، عبر إصدار مذكرتَي اعتقال بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير حرب إسرائيل خلال العام الماضي، يوآف غالانت، باعتبارهما المسؤولَين الأوليين عن جريمة حرب الإبادة، وما يتخللها من جرائم حرب مثبتة وواضحة وصريحة، ولم تكن إسرائيل بطاقم الحكم المتطرف والمتورط بمجموعه وأفراده في جريمة حرب الإبادة، لتصمت إزاء تلك الانتقادات والمطالبات بوقف الحرب، أو بتجنب قتل المدنيين او حتى الالتزام بقواعد وقوانين الحرب، بما في ذلك عدم منع دخول المواد الاغاثية والغذائية، لدرجة أن اكثر من وزير اسرائيلي، سبق له وهاجم اكثر من مسؤول اجنبي، ولعل مثال التعرض لأمين عام الأمم المتحدة انطونيو غوتيريس، من قبل مندوب إسرائيل في المنظمة الدولة جلعاد اردان، لدرجة وصفه بالمعادي للسامية، هو وكل الأمم المتحدة، والمطالبة بإقالته، يعتبر مثالاً صادماً، ووقحاً، يصدر عن دولة هي عضو في المنظمة الدولية ذاتها، التي تمثل المجتمع البشري بأسره.
اي ان إسرائيل ومنذ نحو عام ونصف، وجدت نفسها في زاوية ضيقة، فهي على طرف حاد تواجه معظم العالم، والغريب انها _أي إسرائيل، لم تتردد عن تجاوز البروتوكول الدولي والدبلوماسية المعتادة بين الدول، ولم تتردد في مهاجمة رؤساء، مثل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، ورؤساء حكومات مثل رئيس حكومة اسبانيا، بيدرو سانشيز، ناهيك عن وزراء خارجية وغيرهم من المسؤولين، فيما لم تنج بعض الدول، مثل مصر وقطر، وهي تقوم بدور الوساطة من أجل التوصل لصفقة التبادل، من تعرض الإسرائيليين سواء كانوا وزراء او مسؤولين او إعلاميين، ولم يكن الأمر له علاقة بتبادل ادوار داخلي، ذلك ان المعارضة ليست مثل الحكومة في تطرفها وإصرارها على الحرب من جهة، وما تمارسه إسرائيل خلال تلك الحرب من جرائم مثبتة، إن لم تجر إسرائيل بقادتها وضباطها للمحاكم الدولية، وان لم تتسبب في تعرض إسرائيل لعقوبات سياسية عالمية، فإنها قد تسببت فعلاً بنبذها كدولة عضو في المجتمع الدولي.
بالطبع استندت اسرائيل على الحليف الأميركي لتواصل وهي بقيادة متطرفة جداً، بل الأكثر تطرفاً في تاريخها، بما يعتبره بعض الإسرائيليين انفسهم ومعهم بعض اليهود الأميركيين والبريطانيين يلحق الضرر البالغ بإسرائيل ويهود العالم، بما يسببه من كراهية لها اسبابها هذه المرة ضد دولة تعتبر نفسها دولة يهودية، او دولة لليهود، وتسير على طريق الفاشية العالمية، في نفس الوقت، ورغم كل ما قدمه الرئيس الأميركي السابق جو بايدن لإسرائيل، إلا انه لم يسلم من النقد، بينما تم إخضاع سلوكه خلال الحرب لصناديق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حيث كانت النتيجة خسارة حزب بايدن الديمقراطي للبيت الأبيض وللأغلبية في مجلسي الكونغرس الشيوخ والنواب.
لكن احداً من قادة إسرائيل المتطرفين لم يجرؤ لا على الهجوم على الرئيس الأميركي او على اي احد من وزرائه، ولا حتى توجيه الانتقاد لهم، حتى في لحظات كان يبدو فيها بأن أميركا ستخرج يدها من حرب الإبادة الإسرائيلية، وذلك قبل عام من هذه الأيام، حين ذهبت اميركا الى مجلس الامن الدولي بما عرف بمبادرة بايدن كأساس لصفقة التبادل، ووضعت إسرائيل العراقيل أمامها، وهدد اكثر من وزير إسرائيل بتفكيك الائتلاف في حال وقف الحرب، بل وزادوا على ذلك بالقول بان إسرائيل دولة مستقلة، لا تتخذ قرارتها من واشنطن، وان اقتضى الأمر ستواصل الحرب وحدها، وكثير ما تباهى نتنياهو شخصيا، بكونه يقف في وجه اميركا حين يكون هناك خلاف بينما، حول ما يدعيه من امن إسرائيل.
وقد بات الأمر اكثر وضوحا إزاء الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، وهو لا يقل حبا او انحيازا لإسرائيل عن سلفه بايدن الذي كان يتباهى بكونه صهيونيا وان لم يكن يهوديا، فيما كانت إدارته كما إدارة ترامب تغص بالمسؤولين اليهود، لكن ترامب ورغم ما يطلقه من تصريحات متشددة، كان اهمها بالطبع ذاك الاعلان الذي سرعان ما نسيه بعدما وقفت مصر في طريقه وردت عليه باحتوائه، والذي كان اطار عقل المتطرفين العنصريين الفاشيين من وزراء الحكومة الإسرائيلية ونقصد به ذلك الاعلان الخاص بتهجير سكان غزة، وتحويلها لمنتجع سياحي، سماه «ريفيرا الشرق الأوسط»، ترامب هذا سرعان ما بدأ لأنه يمثل خيار الصفقات التجارية وليس خياره الحروب العسكرية التي تزيد من ثروة شركات الصناعة العسكرية، ولعل بضعة أسابيع قليلة مضت، تشير الى عدد من الصفعات التي وجهها ترامب لنتنياهو، ولاستراتيجيته السياسية الخاصة بإعادة ترتيب الشرق الأوسط، ليتمخض عن ولادة اسرائيل الكبرى، ورغم ان فتح ترامب لباب التفاوض مع ايران، ثم اعلان الاتفاق مع الحوثي، بخروجه من جبهة الحرب مع اسرائيل على تلك الجبهة، والتي تعدها اسرائيل واحدة من سبع جبهات، بقيت هي الأهم في اسناد غزة، كذلك فتح طاقم ترامب لباب التفاوض المباشر مع حماس، كل هذا لم يدفع لا ترامب ولا بن غفير، ولا حتى مكتب رئيس الحكومة للهجوم على ترامب.
واضح بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية ومكتبه يحسبون جيدا حين يطلقون التصريحات والإعلانات، وانهم يربطون كلماتهم بوزن الوجهة التي يطلقون تلك التصريحات نحوها، وهذا يعني بأنهم لا يعيرون وزنا للقانون الدولي، ذلك انهم وصفوا المحكمة الجنائية الدولية نفسها بالعداء للسامية، كما أنهم يستخفون بالأمم المتحدة، وإلا لما تجرأ مندوبها في نيويورك، والى المنظمة الدولية نفسها ان يتهم الأمم المتحدة وأمينها العام بالعداء للسامية، وهذا يعني أيضا بأن إسرائيل لا تقيم وزنا للقادة الأوروبيين كما تفعل مع الرئيس الأميركي، سواء كان بايدن او ترامب.
ويبدو بأن لردة فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومكتبه بالتحديد، ازاء تصريحات ومواقف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أكثر من سبب، ففرنسا، هي واحدة من الدول العظمي الخمس في العالم، وهي تقود مع ألمانيا الاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة، وهي الى جانب المانيا وبريطانيا تعتبر اهم دول اوروبا، وعلى الصعيد الدولي، فرنسا واحدة من خمس دول عظمى رسميا وفعليا في العالم، بعلامة التمتع بحق النقض الدولي «الفيتو» في مجلس الأمن.
وفرنسا تعتبر سادس دولة من حيث القوة العسكرية في العالم، بعد أميركا وروسيا والصين، بريطانيا والهند، كذلك تعتبر فرنسا سابع اقوى اقتصاد في العالم، بعد اميركا والصين، اليابان وألمانيا، الهند وبريطانيا، أي أنها دولة عظمى فعلاً وقولاً، وهي قبل ذلك وبعده، لديها التجمع اليهودي الثالث من حيث العدد، بعد إسرائيل وأميركا، فلماذا اذاً يطلق نتنياهو ومكتبه العنان للرد وبشكل حاد وغير دبلوماسي، على كل انتقاد يقوله ماكرون للسياسة الإسرائيلية، خاصة تلك المرتبطة بالحرب على فلسطين وغزة بالتحديد، وفرنسا، سبق لها وان سبقت اميركا بتقديم الدعم العسكري لإسرائيل، الذي سمح لها أولاً بالمشاركة في العدوان الثلاثي عام 1956، وثانياً في الانتصار في حرب حزيران 1967، وبينهما بإنشاء مفاعل ديمونة النووي، والذي انتج سراً حتى عن الولايات المتحدة عشرات او حتى مئات القنابل النووية، والجواب يبدو ان له علاقة بما يمكن وصفه بالردع السياسي، أو قطع الطريق على تطور وتقدم الموقف الفرنسي، لما هو أبعد مما هو عليه حاليا، من التزام بالموقف الأوروبي الرسمي، وحتى يبقى قريبا من الموقفين البريطاني والألماني.
نقصد ان اقتراب فرنسا من الموقف الذي تعتمده دول اسبانيا، ايرلندا، النرويج وبلجيكا، والاخيرة هي دولة الاتحاد الأوروبي، حيث مقر المفوضية الأوروبية، والخاص بالاعتراف بدولة فلسطين، ومواصلة الضغط على اسرائيل لقبول حل الدولتين، بما يعني التأثير على موقفي ألمانيا شريك فرنسا في قيادة الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، بما يعني عزل الموقف الأميركي المنحاز بلا قيود لإسرائيل، وهي ترفض حل الدولتين الذي جمع الغرب على إقامة دولة إسرائيل المعترف بها وفق قرار التقسيم، خاصة وان هذا الأمر قد اقترب كثيراً، وبدأ معه حديث ماكرون عن ذلك الاعتراف في حزيران القادم، وذلك خلال المؤتمر الذي سيعقد في نيويورك حول فلسطين وتترأسه فرنسا مع المملكة العربية السعودية.