شهدت الدبلوماسية الفلسطينية حراكاً مهماً في الشهر الأخير تجاه تصفير أزمات فلسطين مع المحيط العربي، وتمثلت في زيارات قام بها الرئيس لسورية للالتقاء بالرئيس السوري الجديد بجانب لقاءاته المكثفة مع الزعماء العرب على هامش قمة بغداد بما في ذلك رئيس الوزراء اللبناني الجديد، كذلك زيارة نائب الرئيس للرياض للقاء الأمير محمد بن سلمان واللقاء الأول من نوعه مع القيادة الإماراتية بعد قطيعة ولقاءات في الدوحة نظراً لدورها المهم في ملف غزة.
النتيجة الواضحة أن دولة فلسطين لم تعد لها أزمة وخلاف مع أي دولة عربية.
وفي الحقيقة فإن هذا هو جوهر الموقف الفلسطيني التاريخي القائم على وجوب الحفاظ على علاقة صحية مع النظام العربي حفاظاً على مصالح شعبنا.
لم يكن لنا مشاكل مع سورية بل كان الأسد من أوجد هذه المشاكل، كما أن لبنان الجديد بصياغات الجبهة الداخلية فيه بعد الحرب يختلف كثيراً عن لبنان الذي كانت بعض أطرافه تتدخل بشكل كبير في الشأن الفلسطيني، الأمر ينسحب على بعض دول الخليج الأخرى. مع التذكير أن ردة الفعل الفلسطينية الرسمية كانت منطقية وواجبة في اتخاذ موقف قاطع من هذه التدخلات وكذلك من بعض المواقف السياسية لبعض الدول، ولكن أيضاً الآن وفي ظل محاولة تصفية القضية وتصفية غزة وجب القيام باستدارة من أجل الالتفاف على هذه المحاولات.
اتسمت العلاقة الفلسطينية مع المحيط العربي خلال سنوات ماضية بالتوتر لجملة من الأسباب لم يكن الكثير منها له علاقة بالموقف الفلسطيني الرسمي بقدر رغبة وتوجهات بعض الدول للتدخل في الملف الفلسطيني وفي بعض القضايا الفلسطينية الداخلية وهو ما لم يكن من الممكن القبول به، بجانب الانزياح في مواقف بعض الدول بشأن الصراع ما رأى فيه الكل الفلسطيني توجهاً عاماً يضعف الموقف العربي العام وليس الموقف الفلسطيني فقط، خاصة في الوقت الذي نجح فيه الموقف الفلسطيني في إفشال صفقة القرن والوقوف بحزم أمام توجهات ترامب لتصفية القضية بشكل كامل وتجاوز المطالب الفلسطينية واختصارها كما يريد أن يفعل الآن في موضوع غزة تحت ذرائع إنسانية.
لم يتغير الأمر كثيراً، ولكن المؤكد أن الضغط الأميركي ما زال يتواصل من أجل تصفية القضية الفلسطينية، وإننا رغم الكثير من الملاحظات بحاجة لإعادة لملمة الموقف العربي للحفاظ على ما تبقى من مكتسبات شعبنا.
من هنا فإن توجه القيادة الفلسطينية لتصفير الأزمات والصراعات والخلافات مع المحيط العربي يعبر عن نضج واضح في التعاطي مع السياق الجديد.
انتبهوا.. ترامب يريد أن يستخدم الموقف العربي «عربة» يسير بها لتنفيذ خططه الجاهزة في غزة، وانتبهوا أكثر أن الشيء الوحيد الذي يتجنبه ترامب هو التعامل مع الفلسطينيين ويتعمد عدم ذكرهم.
إنه يتعامل مع ملف غزة كأنه ملف سقط من السماء لا أب ولا أم له، ويريد هو أن يكون حامل الوديعة المؤتمن.
وعليه فإن محاولة محاصرة توجهات ترامب من خلال موقف عربي منسق أمر بالغ الأهمية.
حتى أنه يمكننا الاستفادة من علاقات بعض الدول مع ترامب وتوظيف هذه العلاقة من أجل إرسال إشارات تنبيه واضحة بأن ثمة مقرراً وحيداً بالشأن الفلسطيني وهو الممثل الشرعي والوحيد لتطلعات شعبنا؛ منظمة التحرير الفلسطينية.
ففي الوقت الذي يسعى فيه ترامب إلى إزاحة الفلسطينيين عن العربة التي يتم في داخلها مناقشة مستقبل القضية الفلسطينية، فإن القيادة الفلسطينية عبر التحركات النشطة الأخيرة والتوجيه الحكيم لتصفير الأزمات قفزت على عجلة القاطرة التي توجه هذه العربة من خلال فرض نفسها محوراً للإجماع العربي.
إن من شأن تخفيف الاحتقان مع المحيط العربي، وهو احتقان لم يكن الفلسطينيون جزءاً منه ولا هم ما بادروا له، مهم في محاصرة توجهات ترامب، وفي الإمساك بمقبض الباب حتى لا يغلق الباب علينا بشكل كامل.
بالطبع هناك من يحب أن يصرخ ويخطب حول التضامن العربي والموقف العربي المشترك والالتزام القومي، وأن على العرب لزاماً أن يكونوا مع فلسطين، وهو بذلك لن يلقى من يصفق له إلا بعض معجبيه ومتابعيه على السوشيال ميديا، لكن في الحقيقة فإن الحفاظ على ما تبقى من كل ذلك يتطلب تضحيات ويتطلب شجاعة في اتخاذ الموقف والدفاع عنه و»غض الطرف» عن أشياء كثيرة من أجل توحيد الموقف العربي.
إن ترك محيطنا العربي دون علاقة وتربيط، على ما في ذلك في مرات من مرارة، يترك الساحة العربية أكثر لإسرائيل في إعادة تعريف مواقف وصياغات تلك الدول.
إن إعادة تربيط العلاقة مع الكل العربي ضرورة وطنية وقومية لأن حماية مصالحنا أهم من الخطب الرنانة.
يمكن تسجيل تحول لو بسيطا في مواقف هذه الدول تجاه الالتزام بالموقف الفلسطيني العام بشأن خطة ترامب.
إن عدم الحديث مع الإمارات جعلها نهشاً للتحليلات الإسرائيلية وعرضة للمزيد من الضغط من أجل أن تقبل أن تكون جزءاً من خطة إسرائيلية لضبط قطاع غزة، وفيما لم يصدر موقف بهذا الخصوص بل تم نفيه فإن إعادة ضبط العلاقة مع أبو ظبي بعد لقاءات نائب الرئيس الأخير جعل مواقفها المعلنة الآن أكثر التزاماً بالموقف الفلسطيني، وهو أمر يجب مواصلته مع الجميع.
إن فلسطين هي قضية العرب الأهم ولكن أيضاً القطيعة مع العرب تجعل ضربات هذا القلب تخفت وربما تتوقف.
نفس الشيء ينسحب على العلاقة المتجددة والمتينة الآن مع السعودية التي بات لها دور مهم في الصياغات الإقليمية والدولية مع نفوذها المتنامي.
من المؤكد أن الموقف السعودي لم يتغير ولم يتبدل ولكن ترك هذا الموقف لتقديرات تل أبيب ولضغوط واشنطن أيضاً يضعف من حلقات التواصل والتنسيق الواجبة لصياغة موقف عربي مشترك.
أعتقد أن التوجه نحو تصفير الأزمات يجب أن يتم توسيعه من أجل أن تظل فلسطين في قاطرة القيادة حين يتعلق الأمر بمصالحنا الوطنية، وهذا يتطلب المزيد من الشجاعة والمواقف.