هوس القوة وفتنة السلاح

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 


بالنظر إلى تاريخنا المعاصر، وتحديدا فيما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني، سنجد أنّ ثقافتنا اعتمدت بشكل كبير على مقولة «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة».
وبتفكيك المقولة، سنجد أولاً أنّ إسرائيل لم تعتمد على عنصر القوة فقط، رغم أهميته، إلا أنها اعتمدت على عناصر أخرى قد تفوقها أهمية، أبقت على حياتها، بل جعلتها تتفوق على سائر الإقليم؛ مثل اهتمامها بالعِلم وإقامة الجامعات والمعاهد المتخصصة واهتمامها بالتكنولوجيا، والصناعات الدقيقة، إضافة إلى أنها دولة مؤسسات تتميز بالتنظيم، والإدارة الناجعة، وتعتمد على مراكز الأبحاث، ولديها قضاء مستقل (عنصري)، وصحافة جريئة ناقدة (في الشأن الداخلي)، ونظام ديمقراطي (ديمقراطية إثنية عنصرية) قائم على الانتخابات والتداول السلمي للسلطة.. تلك حقائق ينبغي إدراكها قبل فتح جبهة الصراع معها.
أما ثانيا، فقد اعتمد العرب (أو قامت ثقافتهم وتخطيطهم) على عنصر القوة فقط، وبالمفهوم العسكري والأمني، دون إدراك حقيقي بأن القوة مفهوم أوسع وأشمل من السلاح.. والمصيبة أنهم لم يمتلكوا القدرة العسكرية اللازمة لردم الفجوة وتعديل موازين القوى، بحيث يكونون مؤهلين لخوض صراع عسكري يمكّنهم من إحراز النصر!
ولدينا أمثلة لا حصر لها لتوضيح الفكرة؛ مصر عبد الناصر، ليبيا القذافي، عراق صدام، نظام الأسد، الجزائر.. إلخ، حيث الاهتمام البالغ ببناء قوة عسكرية، واستيراد الأسلحة والطائرات الحربية تحت شعارات التحرير وتحقيق التوازن الإستراتيجي. والنتيجة التي لا تحتاج شواهد (لكثرتها) أننا نواصل الهبوط من قاع إلى قاع.
على سبيل المثال، أنفق نظام صدام خلال عقد الثمانينيات نحو مائة مليار دولار على الإنفاق العسكري، لو أنفق نصفها على تطوير التعليم وتوطين التكنولوجيا وتحديث الصناعة والزراعة بالاعتماد فقط على الموارد والعقول العراقية.. لصار العراق يابان الشرق الأوسط، ولما قُتل مواطن واحد في صراعات طائفية بغيضة وللدفاع عن شعارات أيديولوجية متخلفة.
وبحسب مراكز متخصصة، بلغ إنفاق الدول العربية على التسليح للعام 2024 نحو 165 مليار دولار، احتلت السعودية المرتبة الأولى بإنفاق بلغ 74 مليار، تلتها الجزائر (25 مليار)، ثم المغرب (13)، قطر (9)، عُمان (8)، العراق (8)، الكويت (7)، مصر (6)، الأردن (2.5).  
أما عن السنوات السابقة، بحسب بيانات البنك الدولي، بلغ إجمالي الإنفاق العسكري للدول العربية خلال الأعوام العشرين الماضية (1999-2018) نحو 2028 مليار دولار. وبلغت حصة الدول العربية 7.4% من حجم الإنفاق العسكري عالميا، في حين أنها أسهمت مجتمعة بـ 3.2% فقط من حجم الاقتصاد العالمي!
في الحرب التي خاضتها السعودية ضد اليمن، قدرت الأمم المتحدة خسائر اليمن، خلال ست سنوات من الحرب بنحو 126 مليار دولار، فيما خسرت السعودية بحسب تقرير «فورين بوليسي» نحو 725 مليار، ودون حسم الحرب!
أما في السودان، فقد بلغ حجم الخسائر في البنية التحتية للبلاد خلال سنة واحدة نحو 60 مليار دولار، وتراجع الناتج المحلي بنحو 20%، وكل هذا قبل أن تتوقّـف الحرب!
لن نتحدث هنا عن الخسائر البشرية والنفسية، فهذا شأن آخر، ولن أتعبكم بإحصاءات وخسائر بقية الحروب البينية أو الأهلية التي خاضتها الدول العربية، ربما لاستحالة الحصول على بيانات دقيقة، لكن المؤكد أن الأنظمة العربية أنفقت تريليونات الدولارات على الحروب وصفقات الأسلحة، فقط لحماية عروشها ومصالحها.. ولو أنفقت ربعها على البناء والتنمية والتطلع نحو المستقبل، لقضت على الفقر والبطالة والتخلف، وغادرنا العالم الثالث نهائيا.. والأخطر من ذلك أن الشعوب العربية (وتنظيماتها) كانت منقادة وراضية، ومفتونة بوهم القوة، وبسحر السلاح.
هل لدينا إحصاءات عن حجم إنفاق التنظيمات الجهادية والميليشيات المسلحة وحروبها العبثية في العراق ولبنان وسورية وسيناء وليبيا والصومال وغيرها؟ حتى المواطن لا يفكر بذلك، وربما كان مؤيدا لبعضها، وغارقا في أوحال الطائفية والمذهبية.
هل نعلم حقيقةً حجم إنفاق «حماس» على حفر 500 كم من الأنفاق بعمق عشرات الأمتار؟ على سبيل المثال احتجتُ نحو 200 دولار لعمل شق ترابي بعمق 40 سم وطول 4 متر لتمديد ماسورة بلاستيكية قطرها 4 إنش! فما بالك بما يُسمى مترو غزة بحسب وصف الراحل إسماعيل هنية نفسه! علما أن فيتنام (التي اخترعت حرب العصابات والأنفاق السرية) مساحتها تفوق مساحة قطاع غزة بِـ 92 ضعفا، حفرت أنفاقا بطول 250 كم فقط، على مدى عشرين سنة! هم كسبوا الحرب، ونحن خسرنا غزة كاملة، وفقدنا نحو 200 ألف إنسان بين قتيل وجريح ومفقود وأسير!
يبدو أن العقل العربي لم يستوعب بالقدر الكافي أن القوة الناعمة بكل عناصرها (العلم، التكنولوجيا، الإعلام.. إلخ) أهم بكثير من القوة العسكرية، وهي وحدها القادرة على تحقيق الانتصارات وبناء الدول المحترمة.
ولو تخلصنا من قدسية الشعارات ونجونا من وهم الأهداف المخادعة والتضليل الإعلامي سندرك أنَّ بناء المؤسسات والتخطيط والاهتمام بالمواطن واحترام إنسانيته وحقوقه أهم من خوض الحروب.. وأنّ فعالية النضال الجماهيري والسياسي والإعلامي والدبلوماسي والحقوقي أكبر وأهم وأخطر من القوة العسكرية.. بل إن القوة العسكرية هي التي يتوجب تجنبها (أو ممارستها بحذر)، ببساطة لأن إسرائيل هي المتفوقة كليا في هذا المضمار، وهي ساحتها المفضلة التي تنتصر فيها دوما، خلافا لساحات النضال الأخرى التي يتم فيها تجريد إسرائيل من ترسانتها العسكرية وتحييد أسلحتها الفتاكة.
هكذا تقتضي الحكمة، وهذه هي المسؤولية الوطنية الحريصة على الشعب وعلى حياته ومقدراته ومستقبله وقضيته أكثر من حرصها على بقائها وحكمها، أو إيلام العدو بضربة عسكرية موجعة، ثم لا تجد طريقة لمواصلتها، بل ترتد نتائجها السياسية سلبيا.
أنظر لنماذج الدول الناجحة والمتطورة والقوية فعلا حول العالم: اليابان، ألمانيا، الصين، كوريا الجنوبية.. سأكتفي بهذه الأمثلة لأن ما يجمعها أنها تعرضت لهزائم عسكرية ساحقة، وأُجبرت على توقيع معاهدات مذلة، وتدمرت بنيتها التحتية مع حلول النصف الثاني من القرن الماضي.. ما فعلته بعدها أنها تجاوزت ذهنية الهزيمة، وتخلت عن الإنفاق العسكري، ولم تخض حربا طوال السبعين سنة الماضية، وفهمت معنى القوة الحقيقية، وركزت عليها بتصميم وثبات، حتى صارت أقوى وأهم دول العالم.
بماذا نختلف نحن العرب عن بقية العالم المتطور؟ الإجابة في مقطع من معلقة عمرو بن كلثوم الشهيرة، وملخصها «ونجهل فوق جهل الجاهلينا».