بعد حرب الإبادة في غزة: فتح وحماس ودحلان ومأزق المشروع الوطني الفلسطيني!!

تنزيل.jpg
حجم الخط

بقلم د. أحمد يوسف

 

 

شكلت حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في أواخر عام 2023 وحتى الآن "محطة فارقة" في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ليس فقط بسبب حجم الدمار الإنساني والمادي غير المسبوق، وإنما بسبب ما أفرزته من تساؤلات وجودية حول مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، وموقع كلّ من حركتي فتح وحماس ضمن هذا المشهد المعقد.

أولاً: غزة بعد الحرب.. جراح نازفة وشرعيات مأزومة

خلَّفت الحرب التي لم تنته بعد، مشهدًا كارثيًا: عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، مع دمار شبه كامل للبنية التحتية، وانهيار الحياة المدنية والاقتصادية.

وفي ظل ما عليه المأساة من عمق إنساني وكارثة وجودية، برز سؤال محوري: أين كانت القيادة الفلسطينية الرسمية؟ بل وأين هي الآن؟ فقد بدا واضحًا أن السلطة الفلسطينية أخفقت في تقديم أي دور ملموس؛ سواء على صعيد الحماية أو التمثيل السياسي، وهو ما عمّق الفجوة بينها وبين الشارع الفلسطيني، خاصة في غزة.

ثانيًا: حماس.. بين شرعية المقاومة وضغوط السياسة

رغم الكلفة الباهظة بمليارت الدولارات التي تكبدها القطاع، فإن حركة حماس خرجت من الحرب بقدر كبير من التعاطف الشعبي خارجيًا، لاعتبارات لها علاقة بتقدير الشارع العربي والإسلامي والإنساني بحق الفلسطينيين المشروع في مقاومة الاحتلال لأرضهم، إلا أنَّ الخريطة الداخلية المنكوبة لها تحفظات ورأي آخر.

وبناءً على ذلك، فإنَّ حركة حماس اليوم تواجه معضلة مزدوجة: فكيف يمكنها الحفاظ على المكاسب الرمزية والسياسية التي جناها الفلسطينيون، جراء التعاطف الكبير -وغير المسبوق- على مستوى الكثير من الحكومات الأوروبية ودول أمريكا اللاتينية والرأي العام، في ظل ضغوطٍ إقليمية ودولية لإعادة تشكيل الحكم ووضع السلطة بالقطاع، ولكن في سياقٍ ربما يؤدي إلى تهميشها أو احتوائها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل ستقبل حركة حماس بشراكة وطنية تُفضي إلى تراجع دورها السياسي، أم أنها ستتمسك بزمام الحكم تحت شعار "من ضحى لا يُقصى"؟! وهذا لغطٌ مشروع لا يمكن تجاهله أو القفز عليه!!

ثالثًا: فتح والسلطة.. انكشاف سياسي وتآكل الشرعية

بالنسبة لحركة فتح، فإنَّ الحرب كشفت عن عمق أزمتها، فالموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية، والرئيس عباس، اتسم -من وجهة نظر الكثيرين- بالضعف والتردد، مما انعكس سلبًا على مكانتها في الشارع الفلسطيني. كما أن محاولات إعادة إنتاج السلطة عبر مشاريع أميركية أو عربية لإعادة الإعمار مقابل "إصلاح الحكم" تبدو في نظر الكثيرين مجرد محاولات لتجاوز جوهر المأساة وتكرار نهج أثبت عجزه لعقود.

رابعًا: الانقسام الفلسطيني.. إلى أين؟

تُعد مسألة الانقسام الوطني بين فتح وحماس أحد أبرز العوامل التي أضعفت المشروع الوطني الفلسطيني في السنوات الماضية. وقبل أن تضع حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة أوزارها بعد، عاد الحديث عن المصالحة، ولكنَّ السؤال هو: هل ثمة إرادة حقيقية لتجاوز الحسابات الفصائلية؟ أم أن القوى المتصارعة ستعيد توظيف الأزمة بما يخدم مصالحها التنظيمية؟!

إن فرص المصالحة هذه المرة قد تكون أكبر، بسبب هول المأساة وعِظم النكبة وكارثيتها،  ولكنها مع ذلك تبقى رهينة التفاهم على مشروع وطني جامع، لا مجرد تقاسم للسلطة.

خامسًا: المشروع الوطني الفلسطيني.. الحاجة إلى إعادة تعريف

أمام التحديات المتفاقمة، يبدو أن المشروع الوطني الفلسطيني وصل إلى مفترق طرق، إذ لم تعد اتفاقيات أوسلو قادرة على تقديم أي أفق سياسي، كما أن فكرة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 باتت أكثر بُعدًا من أي وقت مضى. ومن جهة أخرى، فإنَّ خيار المقاومة المسلحة رغم رمزيته يحتاج إلى إستراتيجية وطنية جامعة، وليس إلى فصائلية مسلحة. ولذلك، بات من الضروري إعادة تعريف المشروع الوطني: ما هدفه؟ من يمثله؟ وما هي أدواته؟ وهل المطلوب اليوم حركة تحرر جديدة، أم إعادة بناء منظمة التحرير؟ أم كلاهما معًا؟ وما مدى الاستثمار السياسي في المواقف المتعاطفة والمتعاظمة والمطالبة -اليوم- بالاعتراف بالدولة الفلسطينية؟!

سادسًا: الخيارات المطروحة

في ظل هذا السياق، تبدو الخيارات أمام الفلسطينيين معقدة، لكنها ليست معدومة:

* تشكيل قيادة وطنية موحدة تضم مختلف القوى والفصائل والتيارات الشبابية.

* الدعوة لانتخابات عامة شاملة رئاسية وتشريعية ومجلس وطني، شرط توفير ضمانات النزاهة والتوافق.

* إطلاق حوار وطني شامل يضع تصورًا جديدًا للمشروع الوطني، بعيدًا عن الوصاية الإقليمية والدولية.

* إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتعود ممثلاً فعلياً للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات.

سابعًا: تيار دحلان.. بين حسابات الإقليم وحدود الشعبية

يُعد القيادي محمد دحلان وتياره الديمقراطي الإصلاحي طرفًا فاعلًا في المعادلة الفلسطينية، خاصة في ضوء دعمه من أطراف إقليمية وحتى دولية مؤثرة، ووجوده التنظيمي الواسع في بعض مناطق غزة والشتات..

ومن الجدير ذكره، أن تصدره لمشهدية العمل الإغاثي والإنساني تحت مظلة الفارس الشهم (٣)، في ظل سياسات التجويع والحصار الذي يتعرض لها مئات آلاف من النازحين بالقطاع، سوف تمنح هذا التيار وقيادته المزيد من الشعبية والمصداقية.

ومع ذلك، فإنَّ حملات الاستهداف الممنهج لشخص دحلان، ستجعل من فرص صعود التيار محدودة نسبيًا داخل الضفة الغربية، وفي أوساط النخبة السياسية وبطانة الرئيس عباس، نظرًا لتاريخية الخلاف بين الرجلين، وما يراه خصومه السياسيون ويثيرونه من أنه صاحب شخصية مثيرة للجدل، وهناك تحفظ لدى بعض القطاعات في الشارع الفلسطيني لعودته كواجهة للسلطة أو الحكم.

ومع ذلك، فإن غياب البدائل الوطنية الجامعة، وانسداد الأفق أمام التيارات التقليدية، قد يمنح دحلان فرصةً في المرحلة الانتقالية لتعزيز حضوره، ضمن سيناريوهات إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني، خاصة إن أُدرجَ ضمن مشروع وطني أوسع؛ لا يقتصر على فتح أو حماس، بل ينفتح على التيارات الشبابية والمستقلة.

ثامنًا: الموقف الدولي.. بين ازدواجية المعايير وضغط الشعوب

أظهرت الحرب على غزة مرة أخرى التباين الحاد في مواقف المجتمع الدولي. فقد واصلت الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، دعمها السياسي والعسكري لإسرائيل، تحت مبررات "حق الدفاع عن النفس"، في الوقت الذي تجاهلت فيه حجم الكارثة الإنسانية التي تعرض لها المدنيون في القطاع. في المقابل، برز حراكٌ شعبي واسعٌ حول العالم، داعمٌ للقضية الفلسطينية ومنددٌ بالعدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة ومطالبٌ بوقفه، مما يعكس فجوة متزايدة بين مواقف الحكومات الغربية وشعوبها.

أما الدول العربية والإسلامية، فرغم التصريحات الغاضبة والمبادرات السياسية، فقد بدت عاجزة عن التأثير الحقيقي في مسار الأحداث، وهو ما يعكس محدودية الدور الإقليمي في ظل غياب استراتيجية عربية موحدة، واستمرار التطبيع بين عدد من العواصم العربية وتل أبيب.

هذا الواقع، يفرض على الفلسطينيين الاعتماد أولًا على قوتهم الذاتية، وعلى حشد التأييد الشعبي الدولي ومؤسسات المجتمع المدني، بدلًا من الركون إلى وعود الحكومات الغربية أو العربية.

باختصار.. إن دور مصر في المرحلة القادمة هو حجر الزاوية وبيت القصيد، وخاصة ما يتعلق بحركة حماس ودحلان، فالطرفان في سياق الرؤية السياسية لا يبتعدان كثيراً وبينهما من القواسم الوطنية المشتركة ما يمكن التوافق عليه والتعايش معه. 

إنَّ ما بعد حرب الإبادة في غزة لن يكون كما قبلها. فقد تعرّت الكثير من المُسلمات السياسية، وظهرت الحاجة الماسّة إلى مراجعة شاملة لكلِّ البنية السياسية الفلسطينية وبين حماس، التي كانت -وحتى اللحظة- تحمل عبء  المقاومة المسلحة للاحتلال، وفتح التي ترزح تحت أعباء الماضي، وتيارات كتيار دحلان  وجماعة مروان البرغوثي، وما يمثله د. ناصر القدرة من توجه نخبوي، والتي تسعى جميعها لفرصة في المشهد السياسي القادم.

والآن؛ يبرز سؤال المستقبل: هل تكون غزة بوابة لولادة مشروع وطني جديد، أم محطة لانهيار ما تبقى من الحُلم الفلسطيني؟ وحدها الإرادة الوطنية الصادقة، القائمة على التشارك لا الإقصاء، قادرة على تحويل الألم إلى أمل، والدمار إلى بداية  عمران وروح بعثٍ جديدة.. وكما عودتنا شمسُ فلسطين أنَّ ضياءَها لن تحجبه ظُلماتُ ليلٍ طويل.