تمضي الصين في خطوات متسارعة لإيجاد موطئ قدم في سلم النظام العالمي، هذا يتلخص بدبلوماسيتها الناعمة مع الدول الصديقة وغير الصديقة، واقتصادها الذي ينمو يوماً بعد يوم ويحقق قفزات وطفرات على طريق التنمية المستدامة.
قبل سنوات قصيرة، لم تكن الصين لاعباً في قطاع صناعة السيارات، ولا في الصناعات الثقيلة التي تتطلب تكنولوجيا متقدمة مثل صناعة الطائرات المدنية والعسكرية، غير أنها، اليوم، دخلت هذا المعترك ويبدو أنها ستزاحم الدول الكبرى في هذه الصناعات أيضاً.
لقد قدمت العولمة أجمل هدية للصين حين قررت الولايات المتحدة الأميركية فتح مصانع كثيرة في الأولى، وكذلك فعلت الدول الأوروبية نفس الشيء، والأهم في كل ذلك أن بكين التي فتحت ذراعيها لهذه المصانع، استخدمت العلم لتوطين المعرفة وتحقيق التنمية الوطنية.
اليوم، يعتبر هذا البلد مصنعا للعالم، حتى أنه ضارب على السلع الوطنية لدى الكثير من الدول، وجعل اقتصادات كثيرة تعاني وتخرج من السوق بسبب زيادة شعبية المنتج الصيني المنافس بقوة من حيث السعر والطلب على الكمية وسهولة الشحن والتوصيل وخدمات ما بعد البيع.
على سبيل المثال، لو أخذنا قطاع السيارات، سنلحظ خلال العامين الأخيرين كيف سيطرت الصين لأول مرة على السوق العالمية بتصدير أكثر من 5 ملايين سيارة في العام 2023، متجاوزةً اليابان عملاق صناعة السيارات التي هيمنت على سوق تصديرها - السيارات - خلال السنوات الماضية.
كيف حصل ذلك؟ أولاً، ينبغي التأكيد هنا على أن واحدة من أهم مستهدفات الصين الاقتصادية تتمثل في التوسع الإنتاجي ليشمل مختلف الصناعات، وصولاً إلى المركز الأول في الاقتصاد العالمي. ثانياً، هناك دعم حكومي كبير جداً لصناعة السيارات وتصديرها للخارج، وتسهيلات كثيرة تستهدف تلك التقليدية والمركبات الهجينة والكهربائية.
أيضاً، ركزت الصين على التمكن في صناعة الرقائق وأشباه الموصلات لضمان تصنيع السيارات وعدم انقطاعها عن السوق، ولذلك يمكن القول، إنها استفادت جداً من جائحة «كورونا» في الدفع بسياراتها إلى الأسواق الآسيوية والشرق الأوسط بعد انحسار الجائحة أواخر 2020.
في ذلك الوقت، كانت معظم الشركات العالمية متوقفة عن الإنتاج بسبب فترة الإغلاقات التي تزامنت مع الجائحة، بالإضافة إلى توقف الشحن الدولي وصعوبة الحصول على الرقائق الإلكترونية لتصنيع السيارات، والذي حدث أن الصين سدت هذا الفراغ لتتقدم في التصنيع والتصدير.
وحتى تسيطر على السوق العالمية وتفرض حضورها فيه، قدمت شركات السيارات الصينية إغراءات للعملاء تشمل بيع السيارة بمبالغ مقبولة وخطط سداد ميسرة بفوائد متدنية جداً، ناهيك عن مزايا ضمان المركبة لسنوات طويلة وخدمات ما بعد البيع.
اليوم، وفي خارطة قطاع السيارات، تهدد الصين دولاً عتيقة ولديها خبرة طويلة في هذا القطاع مثل اليابان وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، ومن غير المستبعد أن تتربع تماماً على عرش هذا القطاع في ضوء خطواتها المتسارعة في دمج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في خدمة تصنيع المركبات.
حتى في قطاع السيارات الكهربائية، تتحرك شركة «بي واي دي» الصينية بقوة لفرض حضورها في السوق العالمية متحديةً الشركة الأميركية «تسلا»، حتى أنها تفوقت على الأخيرة في بيع السيارات الكهربائية، هذا إلى جانب أنها متخصصة ورائدة في تصنيع البطاريات طويلة العمر.
فقط في غضون أقل من خمسة أعوام على جائحة «كورونا»، تمكنت الصين من الدخول في سوق السيارات العالمية والتأثير بقوة على خارطة هذه الصناعة، وهناك مؤشرات كثيرة على أنها ستتوسع إقليمياً ودولياً وتصل إلى الأسواق الأوروبية والأميركية واليابانية.
هذا يعكس بطبيعة الحال نهج التنين الصيني لإزاحة أكبر اقتصاد في العالم وهو الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن تفوقت على ألمانيا واليابان، ومثل هذا التأثير الاقتصادي سيكون له تأثير سياسي موازٍ، خصوصاً أن أهم محرك في العلاقة مع الدول يتصل بالقوة الاقتصادية.
إذا حافظت على نفس الوتيرة من التصنيع والتصدير مع مزايا سعرية مغرية ووعود بتحسين مستوى الجودة، فإن الصين قد تخرج عمالقة صناعات السيارات من خط المنافسة، وسيعني ذلك أنها ستكون قريبة خلال أقل من عقد من إزاحة الولايات المتحدة اقتصادياً.
في مساري السياسة والاقتصاد، تؤمن الحكومة الصينية بدبلوماسية القوة الناعمة مع الدول حتى تفتح المجال للغزو الاقتصادي. نعم، إنها سياسة «التمسكن حتى التمكن»، وهي سياسة ذكية وتعتمد حكمة الصبر للتربع على عرش العالم دون فتح جبهات توتر أو شن حروب مباشرة.