منذ اليوم الأول الذي نسمع فيه عن أسير مضرب عن الطعام، حتى ندخل في سباق على جلد الذات، وتبدأ الاتهامات من البعض بأننا جميعا مقصرون ومتخاذلون ووو .. ولا أعلم إذا كان من يطلق هذه الاتهامات يفعل ذلك من باب المزاودة، أم لتبرئة الذات، أم لتحفيز الجماهير على التحرك !! في الواقع - إذا جاز لي الحديث عن نفسي - في كل مرة أقرأ تعليقا من هذا النوع تبدأ أصوات داخلية بتقريعي، واتهامي بالعجز والجبن، حتى تفترسني مشاعر الحزن والإحباط .. ومثل كثيرين غيري، ما أن أسمع عن فك الأسير إضرابه، حتى أتنفس الصعداء، فرحا بنجاته وانتصاره من جهة، وبإمكانية استئنافي حياتي شبه الطبيعية من جهة ثانية.
في السنوات الماضية، شهدنا العديد من الإضرابات الفردية، التي خاضها أسرى فلسطينيون بكل شجاعة وبسالة، ورغم تضامننا الكامل مع هؤلاء الأبطال، إلا أن قضية الإضراب الفردي بحد ذاتها صارت تحتاج إلى وقفة ومراجعة وتقييم.
ونظراً لحساسية الموضوع، وخشية البعض من التعرض للانتقاد، أو تماشيا مع التوجه الشعبي العام؛ لم تجرِ أية عملية تقييم؛ فأثناء الإضراب تكون الأولوية للوقوف إلى جانب الأسير المضرب ودعمه وإسناده، وبعد أن تنتهي قصته ننسى الموضوع، وهكذا، إلى أن يبدأ أسير آخر بإضراب جديد .. أعتقد أنه آن الأوان لفتح هذا الملف الشائك والخطير، بكل صراحة ووضوح.
ربما أول من تجرأ على الحديث في هذا الموضوع هو المختص بشؤون الأسرى «عبد الناصر فروانة».
تعتبر الإضرابات أحد أهم الأشكال الكفاحية في مواجهة السجّان، والتي استطاعت بفضل تضحياتها الجسيمة تحسين ظروف الأسرى وانتزاع العديد من الحقوق التي يكفلها القانون الدولي لأي أسير، وعادة تُحدِث الإضرابات ضجة كبيرة محليا وخارجيا، وتسهم في فضح صورة إسرائيل وكشف ممارساتها التعسفية.
وطوال تاريخ الحركة الأسيرة كان قرار الإضراب يُتخذ وينفَّذ بصورة جماعية منظمة، كخيار أخير لا بديل عنه، كلما شعر الأسرى بفشل الوسائل الأخرى. وقد بدأ هذا الشكل النضالي القاسي والصعب العام (1969) في إضراب سجن الرملة، ثم تلاه 25 إضرابا جماعيا كان آخرها في (2012)، وأشهر تلك الإضرابات إضراب سجن عسقلان (1970) والذي استشهد فيه «عبد القادر أبو الفحم»، ثم إضراب سجن نفحة (1980) الذي استشهد فيه «راسم حلاوة» و»علي الجعفري» ثم إضراب سجن جنيد (1984) الذي استشهد فيه «محمود فريتخ».
وفي كل المرات كان يسبق الإضراب تحضيرات وتجهيزات طويلة ومعقدة، مثل تعميم القرار، والتعبئة، والتحشيد، واختيار التوقيت والظرف المناسب، والتنسيق بين السجون، والاتصالات مع الخارج .. وهذه شروط مهمة لنجاح الإضراب. وسابقا كانت قيادة الحركة الأسيرة، تحظر الخطوات النضالية ذات الطابع الفردي أو الحزبي، نظراً لخطورتها على وحدة الأسرى، وعلى منجزاتهم التي تحققت بفعل العمل الجماعي.
يقول «فروانة» في مقالته: مؤخرا، لم تعد الحركة الأسيرة موحدة كما كانت قبل الانقسام، ولم تعد بقوتها وعنفوانها كما كانت عليه قبل أوسلو، وبسبب ذلك لم يعد بمقدورها اتخاذ قرار جماعي بالمواجهة الشاملة، وربما هذا العجز هو ما دفع بعض الأسرى لخوض الإضراب بقرار فردي، فقد تغيرت الحال في السجون، وما كان محظورا بالماضي بات واقعا، وبدأنا نرى أسرى يخوضون إضرابات فردية دون قرار جماعي، كشكل نضالي فرضته أسباب ذاتية وموضوعية.
ومن الملاحظ أن جميع حالات الإضراب الفردي كانت ضد سياسة «الاعتقال الإداري»، أي كانت بمطالب فردية، ولم تكن بمعزل عن الموقف الجماعي للحركة الأسيرة وحسب؛ بل حتى بمعزل عن موقف الفصيل الذي ينتمي إليه الأسير المضرب.
وحتى لو شكّلت هذه الإضرابات بمجموعها امتداداً طبيعياً للثورة على الاحتلال، وتجسيداً بطوليا لثقافة المقاومة خلف القضبان، وأن جميع من خاضوا الإضرابات الفردية نالوا احترامنا وتقديرنا، وقدّموا نماذج مشرفة في التحدي؛ إلا أن لهذا الشكل النضالي تأثيرات سلبية، ينبغي ملاحظتها، وأخذ الدروس منها، وتجاوزها، والعمل على تحصين وحماية الإضرابات من الفشل أو الانكسار.
فضلاً عن أن الإضرابات الفردية غير مضمونة النتائج، وتحمل مخاطر جدية على حياة وصحة المضربين، وتتيح الفرصة لإدارة السجون للاستفراد بهم؛ فإن تلك الإضرابات لم تحقق انتصارات نوعية أو منجزات استراتيجية لمجموع الأسرى، وفي أحسن الأحوال كانت تُعالج مشكلات شخصية فقط، فيما تُبقي المشكلة العامة للأسرى على حالها دون معالجة، بل إنها أخذت تصعّب المهمة أمام أية فكرة لخوض إضراب جماعي، لاسيّما وأن السجّان الإسرائيلي نجح (بخبث) في رفع عتبة بدء التضامن مع أي أسير مضرب، حتى صار الحد الأدنى لبدء تفاعل الناس مع القضية هو شهران.
وبعد أن شاهدنا أسرى يمتد بهم الإضراب لأكثر من مائة يوم (وأحيانا 150 يوما) ثم يخرجون معافون، تشكلت قناعة في عقلنا الباطن بأن الأسير لن يموت، وبالتالي صرنا نسترخي قليلا في عامل الوقت، بينما الأسير يئن تحت وطأة عذاباته، معّرضاً صحته لمخاطر حقيقية جدية، قد تؤدي به فعلا للموت.
الموضوع ليس في استنزاف طاقات وأعصاب المجتمع في قضية فردية؛ بل في أثر الإضراب الفردي على مجمل أوضاع الحركة الأسيرة، فبعد أن صار الإضراب يمتد لشهور متواصلة، صار من شبه المتعذر خوض إضراب جماعي بهذه المدة الطويلة، فليست الجماهير وحدها من صار يسترخي بعامل الوقت، بل حتى المنظمات الدولية والحقوقية والإعلامية، ومنها من صار يشكك في مصداقية الإضراب نفسه، وبالطبع يشمل ذلك المؤسسات الإسرائيلية نفسها الرسمية والمدنية، بل حتى الحركة الأسيرة نفسها، التي صارت تهتم أكثر بهمومها ومشاكلها الداخلية وانشغالها في استقبال آلاف المعتقلين الجدد.
أمام حالة الإضرابات الفردية (وأيضا العمليات الفردية)، ستكون القيادة الفلسطينية وفصائل العمل الوطني مطالبة بتبني برامج كفاحية ثورية تعيد الاعتبار لروح العمل الجماعي، حتى لا يضطر أسير أو طفل لخوض تجربة خطيرة من هذا النوع بمفرده، ننحني احتراما وإجلالا لكل من خاض إضرابا فرديا أو جماعيا، ولكل الأسرى الأبطال، ولعوائلهم الصابرة .. لكن الموضوع يتطلب مراجعة عقلانية، لأن حياتهم غالية، ونريدهم أحياء .. وأحرارا.