ثار نقاش وطني حول ظهور مجموعات مسلحة في غزة في شرق رفح تدعي أنها تقوم بترتيب حياة الناس وتأمين المساعدات. وشكل ظهور هذه المجموعة تهديداً لـ»حماس» التي اتهمتها بالتعاون مع الاحتلال وظهرت تقارير متضاربة حول ذلك في الإعلام. ومصدر التهديد هو الصراع على المساعدات بالطبع. وبصرف النظر عن طبيعة هذه المجموعة فإن كل تاريخ الحروب يقول لنا، إن ظهور أمراء الحرب قد يكون نتيجة طبيعية للفوضى التي تخلقها الحرب المستمرة. وفي ظل سرقة المساعدات التي من الواضح أن أحداً لا يستطيع أن يعفي «حماس» منها أو من المسؤولية عنها فإن بحث الناس عن تأمين قوت يومهم يكون ملحاً. وظاهرة شرق رفح قد تمتد ونجد بجوار كل مركز مساعدات مجموعة مسلحة جديدة في شمال غزة وفي الوسط وفي خان يونس. أمراء الحرب ظاهرة ستنتشر في غزة وبالطبع فإن أمراء الحرب سيتقاتلون فيما بينهم، وحتى مع استمرار الحرب فإن الكثير من مقاتلي «حماس» سيتحولون بدورهم إلى هذه الفئة. ببساطة، لأن لا هدف للحرب إلا الحرب. وثمة مراجعات غائبة إذ ربما كان يجب وقف الحرب خلال الهدنة الأولى التي انتهت في أول كانون الأول 2023 بدل كل هذه الخسارات، لكن «حماس» لا ترى إلا ما تراه «حماس» ولا تسمع أحداً إلا عزفها المنفرد.
لم تستمع «حماس» للمنطق وتوافق على تشكيل إطار وطني يتبع الحكومة الفلسطينية ويدير المساعدات بالتعاون مع المجتمع الدولي بل أصرت على «أنا وما دوني الطوفان»، إذ واصلت النظر إلى «الكعكة» التي تصنعها لها المساعدات وظلت تنظر تحت قدميها حتى تعثرت ووقعت وأوقعت معها كل البلد.
ماذا كانت تتوقع «حماس»؟ أن تواصل احتكار المساعدات وسرقة قوت الناس ويقف الناس يصفقون لها بعد قرابة سنتين من الحرب تمت خلالها الإطاحة بكل شيء في غزة وتدمير القطاع بشكل شبه كامل. كانت تتوقع أن يواصل الناس التصفيق الوهمي لها كما يصفق مشاهدو القنوات العربية وهم جالسون في صالوناتهم الأنيقة يحتسون جرعة أدرنالين وطنية وفي مقاهيهم الفاخرة يستمعون لتحليل وأخبار وتقارير ومقاطع فيديو لا تقدم من الحقيقة - إذا كانت تقدم شيئاً - إلا الجزء غير الحقيقي منها. كانت تنتظر من الناس أن يموتوا وهم يضحكون لأن هناك مفاوضاً يعيش في فندق فاخر أو تحت الأرض، وكلاهما لا يعرف شيئاً عن حياة الناس، أو أن يصدقوا أن احتجاز خمسين جندياً ورفات خمسين آخرين أهم من حياة مليوني فلسطيني؛ ببساطة، لأن الاحتفاظ بهؤلاء الجنود والحفاظ عليهم يعني بقاء «حماس» في الحكم وتفاوضها على مستقبل غزة الذي إن لم تكن هي من تقوده فهي من تقرر نيابة عنه. هل ما زالت «حماس» لا ترى المياه الكثيرة التي جرت تحت الجسر؟ صحيح أن الاحتلال مجرم وهو يتحمل مسؤولية كل شيء لكن ألا ترى «حماس» أن مواقفها بحاجة لبعض المراجعة وأن الشعب ينتظر منها الكثير من الاعتذار عن سوء إدارتها للمعركة وعن طريقة تعاملها مع الشعب، وعن خطابات مسؤوليها المخجلة والمهينة بحق نضالات شعبنا. لا يعيب المرء أن يخطئ، ولكن ما يعيبه هو إصراره على أن خطأه هو عين الصواب.
وبنفس القدر من القلق، لا أحد يعرف ماذا تريد «حماس» حقاً. لم يطلب احد من «حماس» أن تستسلم، ولكن أيضاً لا يقبل عاقل أن تعتبر «حماس» قنص جندي هنا أو تفجير دبابة هناك وقتل كل الجنود داخلها عملا بطوليا أكثر أهمية من استشهاد مائة فلسطيني، إلا إذا كان هناك من يعتبر أن حياة الجندي الإسرائيلي أعز وأغلى من حياة مائة فلسطيني. ثمة حكمة غائبة ومنطق اعوج، لم يعد الاستمرار بتقبله ممكناً بعد كل الخسارات الفادحة التي توجعنا. «حماس» لا تجرؤ أن تقول للناس ماذا تريد. سعيدة بحوار مع «رأس الشيطان» بلغتهم السابقة، وتتمنى مصافحة دافئة وإن بيد مرتعشة معه.
حبذا لو كانت «حماس» تمنع تقدم القوات الإسرائيلية وتردعها وتمنعها من دخول غزة، وأن الجيش الإسرائيلي يقف عاجزاً عن اختراق تحصينات «حماس» (غير الموجودة طبعاً) حول غزة، ويفشل في اختراق مواقع وثكنات المقاتلين، وليت «حماس» قاتلت باستبسال من أجل منع الجيش من ارتكاب مجازر بحق المدنيين أو نجحت في ردعه عن فعل ذلك، بدلاً من ترك المواقع والاختباء، وترك غزة نهباً لدبابات ومشاة الجيش الإسرائيلي وطائراته. الصمود هو أن تمنع العدو من دخول مناطقك وتردعه عن اختراق تحصيناتك لا أن تختبئ وتقول، إنه لا يستطيع أن يجدني فتدوس دباباته شعبك. ألم تقف كل قوة إسرائيل عاجزة عن دخول بيروت رغم القصف من البر والبحر والجو، ألم تعجز القوات الألمانية عن اختراق تحصينات سان بطرسبورغ. لذلك استحق عرفات البطولة واستحقت بيروت البقاء وكذلك خلد التاريخ ستالين وظلت سان بطرسبورغ أسطورة مثل بيروت، ولكن شتان، ومع هذا تستحق غزة وشعبها التخليد لصمودهم وبقائهم رغم الإبادة ولا أحد غيرهم.
ماذا كانت تتوقع «حماس»؟ أن يجوع الناس ويعرون وينامون في العراء فيما تتمتع هي وقيادتها بكل سبل الراحة الممكنة. في المحصلة، الناس يريدون أن يأكلوا ويشربوا، يريدون من يعطيهم الطعام والشراب ومن يوفر لهم الخيمة (تخيلوا لا احد يسأل عن البيت) يريدون من يمنحهم موتاً أخف وطأة حيث لا يموتون من الجوع والعطش، يريدون أن يروا أن حياتهم التي لا تهم أحدا يعيشونها بأقل قدر ممكن من الممكن. ماذا كانت تتوقع «حماس»؟ أن تواصل كذبها وخطاباتها الرنانة ويواصل الناس الصمت. تستطيع الفضائيات الكاذبة أن تكذب على كل العالم لكنها لم تنجح ولن تنجح بالكذب على شعب غزة. ولكن مهلاً، هناك من يهمس لي أن آخر هم «حماس» هو شعب غزة، بل همها العالم ومعجبوها والكورس الذي يواصل ثغاءه بفرح.
الجائع لا يهمه الهوية السياسية للكابونة، الجائع لا ينظر للملصق المكتوب على ظهر كرتونة الطعام، حتى أنه لا ينظر إلى أي شيء، فقط يريد الطعام، وهو لا يهمه من يعطيه الكابونة وماذا يقول عنه، ولن يطلق أحكاماً أخلاقية ولا حتى وطنية للأسف على من يمد له الطعام، ببساطة سيأكله. أما من منع عنه الطعام وسرقه وباعه بأضعاف مضاعفة من أجل أن يجني المال فهو لن يختلف كثيراً بالنسبة للمواطن الجائع عن أي جهة أخرى تقدم له الطعام.
مرة أخرى، لقد أوصلت «حماس» غزة بسياساتها وسوء إدارتها للمعركة وللشأن الوطني إلى حالات غير مسبوقة فيما كان يمكن إنقاذ الحالة الوطنية من الفوضى الجارفة التي بدأت تعم لو فقط أعملت «حماس» المنطق قليلاً وسحمت بتشكيل لجنة وطنية أو جهاز يتبع الحكومة الفلسطينية ينظم حياة الناس.
هل فات الوقت؟ لا أعرف، لكنني أدرك هول ما هو قادم وأنا استمع لخطابات قادة «حماس» المنفصلة عن الواقع. قد لا يعجب هذا القول كثيرين، لكن من قال إن الحقيقة كانت يوماً قولاً مقبولاً لدى الجميع. حمى الله غزة.