حروب نتنياهو وحرية الشعوب على طرفي نقيض

تنزيل (6).jpeg
حجم الخط

الكاتب: مهند عبد الحميد

 


تغنى نتنياهو بهجومه «غير المسبوق في التاريخ» الذي استهدف تدمير قدرات إيران النووية وتغيير نظامها السياسي وإعادة تشكيل شرق أوسط جديد. في اليوم الأول للهجوم أُعجب الإسرائيليون بالقدرات العسكرية والاستخبارية والتنفيذية لجيشهم أيما إعجاب، مستعيدين من ذاكرتهم الجمعية حرب 67 الخاطفة التي حققت نصرا خاطفا على 3 جيوش عربية دون أي خسارة تذكر، وهو ما أوحى به نتنياهو في خطابه الموجه للإسرائيليين. لا شك في أن إسرائيل، حكومة وشعبا، يريدون هذا النوع من الحروب الخالي من الخسارة، ولكن حكومتهم بنسختها النتنياهوية – الكهانية تعشق الحرب وتعتبرها اللعبة المفضلة حتى لو استمرت ردحا طويلا مع خسائر، وحتى لو تعاكست مع رأي الدول الحليفة بما في ذلك إدارة ترامب التي سعت إلى إبرام اتفاق جديد مع إيران لتقنين مشروعها النووي وقطعت شوطا مهما في الوصول إلى اتفاق. كان نتنياهو يسعى إلى مهاجمة إيران بمشاركة أميركية لكنه بادر إلى الحرب بتنسيق ودعم أميركيين كاملين.
وجاء دعم ترامب للحرب ضد إيران مختلفا عن وعوده أثناء الحملة الانتخابية بوقف كل  الحروب استجابة لرغبة قاعدته الانتخابية. نعم، وعد ترامب بإنهاء الحرب في غزة وأوكرانيا ولبنان، لكنه نجح فقط في إيقاف الحرب بين إسرائيل و»حزب الله» وفقا للشروط الإسرائيلية. وأخفق في غزة وأوكرانيا، والأنكى أنه سمح بالهجوم الإسرائيلي على إيران قبل الجولة الأخيرة من المفاوضات. ليس هذا وحسب بل أعلن عن رغبته في تهجير سكان قطاع غزة إلى غير رجعة والاستحواذ على المكان وتحويله إلى «ريفيرا أميركية» مشجعا بذلك نتنياهو على مواصلة حرب الإبادة والتطهير العرقي، ومقدما نموذجا بشعا للحل الذي يُنهي الحرب، وهو تحقيق أقسى شروط المعتدين وأكثرها ظلما واضطهادا وانتهاكا لأبسط حقوق الإنسان والبشر.
ما أكدته حروب إسرائيل الأخيرة أن النظام الدولي مجتمعا لا يستطيع وضع نهاية لحرب الإبادة في غزة ولا حتى إدخال الغذاء والدواء للناس الذين يتضورون جوعا، ولا يستطيع فرض احترام القانون الدولي، ولا يستطيع مساءلة إسرائيل على جرائم الحرب ولا إخراجها من خانة الإفلات من العقاب، ولا يستطيع الآن وقف الحرب ضد إيران والعودة إلى طاولة المفاوضات، وكل ذلك بفعل الموقف الأميركي. إن القول، إننا انتقلنا إلى نظام دولي متعدد الأقطاب يحول دون الاحتكار الأميركي لقرارات الحرب واللاحرب، سابق لأوانه وغير قائم ولا تأثير يذكر له. فالصين وروسيا قدمتا احتجاجا خجولا على الهجوم الإسرائيلي ولم تستطيعا تقديم أي شكل من أشكال الدعم لحليفهم الإيراني في مواجهة الدعم الأميركي اللامحدود.
في كل حرب، تكون إسرائيل طرفا فيها ومهما كان الطرف الثاني فيها قويا أو ضعيفا، تصطف أميركا إلى جانبها من موقع الشريك السياسي والعسكري والاقتصادي وليس من موقع الحليف فقط. حدث ذلك في كل الحروب وتحديدا في حرب 73 عندما فاجأت مصر وسورية إسرائيل بمنظومة صواريخ «سام» السوفييتية المضادة للطائرات التي أبطلت تفوق سلاح الجو الإسرائيلي، حينها أنشأت أميركا جسرا جويا لنقل العتاد الأميركي وزودت الطائرات الإسرائيلية ببالونات حرارية لتشتيت الصواريخ وتمكين الطائرات الإسرائيلية من الإغارة على أهدافها، وبهذا تجاوزت القوات الإسرائيلية المفاجأة التكتيكية المصرية وعادت إلى الهجوم.
هل فات النظام الإيراني حقيقة أن محاربة إسرائيل تعني محاربة أميركا ودول غربية أخرى؟ يلاحظ انه عندما التقطت ايران أنفاسها وبدأت بإطلاق صواريخ بعضها أصاب أهدافا حيوية كمصفاة حيفا ومعاهد وقواعد عسكرية وألحقت خسائر بشرية - ألف إصابة وما يقرب من 30 قتيلا حتى ظهر 16/ 6 -، حينئذ طلبت إسرائيل العون من حلفائها للدفاع عنها، وكانت أميركا تتصدى للصواريخ وتبطل الكثير منها، ولبت بريطانيا النداء أيضا. إن حدود الخلاف بين ايران وإسرائيل يتمحور حول مكانة إيران الإقليمية ونفوذها في الإقليم التي تحاول إسرائيل تقزيمها. لكن تغليف الخلاف بالأيديولوجيا الدينية المعادية لليهود، وبفلسطين وقضيتها العادلة، وبمقاومة الاحتلال والظلم الناجم عنه، كل ذلك المدمج بخطاب شعبوي والمستخدم لأغراض الاستقطاب وجذب الجماهير المسلمة والعربية لا لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإنما للضغط على إسرائيل وأميركا من أجل قبول إيران كلاعب إقليمي في المرتبة الثانية أو الثالثة. لهذا السبب كانت قعقعة السلاح تطغى على استخدامه. ما يؤكد ذلك قول القيادة الإيرانية المتكرر أثناء الحرب وبعدها، إنها لا تسعى لتصنيع سلاح نووي ولا تريد الحرب مع إسرائيل ولم تكن المبادرة للحرب. وفي الأفعال، تركت إيران «حزب الله» يواجه أعتى الضربات الإسرائيلية وحيدا، وتركت حركتي حماس والجهاد والشعب الفلسطيني يتعرضون لحرب الإبادة وحدهم، وتركت النظام الأسدي يسقط وهو الحليف التاريخي الذي حول سورية قاعدة لإيران وميليشياتها وجسرا لانتشارها في المنطقة، وقبلت بصفقة الحوثيين مع إدارة ترامب لوقف إطلاق الصواريخ واعتراض السفن في البحر الأحمر. عمليا، تخلى النظام الإيراني عن كل حلفائه الذين أوجدهم أو دعمهم كي يحاربوا إسرائيل أو يستعدوا للدخول في معارك نيابة عنه وفي سبيل أهدافه، ترك النظام الفصائل التابعة له أو المدعومة منه يواجهون مع شعوبهم الموت والإبادة والتشرد والمطاردة وحدهم، ومضى يتفاوض مع إدارة ترامب من اجل دور مقبول ومعترف به، لأنه يعرف أن أي مواجهة جدية مع إسرائيل، ستقود إلى مواجهة مع أميركا وأن أي خسائر كبيرة تلحق بإسرائيل ستقود إلى تدخل أميركي، وفي الحالين سيكون مصير النظام في الحضيض. وبالمثل، رفض النظام الإيراني الحل السياسي الدولي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعمل على إفشاله ونجح في ذلك، في الوقت الذي كان يبحث فيه عن حل سياسي وصفقة مع الشيطان الأكبر والأصغر، وبقي يشجع حركتي حماس والجهاد على الاستمرار في الحرب دون أن ينبس ببنت شفة وهو يرى الشعب الفلسطيني يتعرض للمجازر والتهجير والتجويع والإذلال والقهر. ولم يسبق للنظام الإيراني أن بنى مدرسة أو إسكانا أو مستشفى أو معملا أو تعاونية ومزرعة وطريقا زراعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة من أجل تدعيم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الاقتلاع والتطهير العرقي، لكنه ساهم في بناء أنفاق غزة وسلح شبانا ومنظمات في الضفة تحت شعار مقاومة الاحتلال ولكن بأي ثمن وبقطع النظر عن النتائج والخسائر والثمن البعيد المدى.
الآن، انتقل الاهتمام الدولي والإقليمي إلى الحرب الإيرانية الإسرائيلية، وقد تراجع الاهتمام بكارثة الفلسطينيين في غزة التي ما زالت تتعرض لحرب الإبادة والتجويع والإذلال. لقد شهد قطاع غزة تصعيدا ملحوظا مع اندلاع الحرب الجديدة. وغابت محنة غزة التي عدت جريمة بحق الإنسانية عن أنظار العالم. قد يشجع الغياب والتعتيم حكومة نتنياهو الكهانية على مواصلة الإبادة وتحطيم المجتمع الفلسطيني وتنفيذ التهجير والضم. لذا فإن وقف الحرب على غزة اصبح ضرورة قصوى بعد الهجوم الإسرائيلي على ايران. كما أن وقف الحرب الإيرانية الإسرائيلية يُعد ضرورة ملحة من أجل قطع الطريق على طموح الفاشية الإسرائيلية في الهيمنة على شعوب المنطقة وتكريس الغطرسة الاستعمارية ورعاية كل التحولات الرجعية المعيقة للتحرر، ومن أجل رفع العدوان الإسرائيلي عن الشعب الإيراني وقطع الطريق على إعادة إنتاج تبعية البلد على النمط العراقي والليبي، ومن أجل قطع الطريق على إعادة إنتاج القمع والاستبداد والنظام الثيوقراطي.