أقل ما يمكن أن يوصف به الموقف الأميركي من الحرب المسعورة التي أطلقها الائتلاف اليميني المتطرف في الحكومة الإسرائيلية منذ العام 2023، هو أن أميركا كانت الشريك الثاني في تلك الحرب، رغم أن العالم بأغلبيته الساحقة، يرى في الجانب الأميركي/الإسرائيلي منها الجانب الظالم والعدواني لدرجة ارتكاب جرائم الحرب المدانة وفق القانون الدولي، ولدرجة أن توصف تلك الحرب، خاصة في الفصل الأساسي منها، وهو الحرب على قطاع غزة، بأنها حرب إبادة جماعية، بما يعني أن إسرائيل باتت تصنف كدولة إبادة جماعية.
وأميركا هذه التي كانت ولا تزال الشريك الثاني في الحرب على الشرق الأوسط، وفي أكثر من مكان منه، وعلى أكثر من شعب ودولة، كانت كذلك بمكونيها السياسيين، أي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وحتى دون أي تفاوت في درجة الشراكة والتورط بجرائم الحرب، ورغم أن إدارة الديمقراطيين برئاسة جو بايدن، حاولت منذ لحظة توليها المسؤولية أن تبتعد عن الشرق الأوسط إلى مكان آخر، وذلك بإغلاق الثغرة التي تحاول إسرائيل إشعال تلك الحرب منذ سنين من خلالها، نقصد الملف النووي الإيراني، وذلك بالعودة للاتفاق الذي كانت الدولتان: أميركا وإيران قد توصلتا إليه العام 2015، ومن ثم التفرغ لاستنزاف روسيا في أوكرانيا، إلا أن بنيامين نتنياهو، عرف كيف يلوي عنق بايدن، ويجره لجانبه وهو يقود عربة الإبادة طوال أكثر من عام، ولم ينجح بايدن حتى في إقناع أو فرض وقف مؤقت لإطلاق النار، رغم استعانته بمجلس الأمن الدولي.
ولم يختلف الحال مع دونالد ترامب، الذي طالما استهزأ بضعف بايدن، مقابل ما يدعيه من قوة بإطلاقه شعار «أميركا أولاً»، وحاول أمراً مشابهاً، أي أن يغلق نافذة النار تحت الرماد، المتمثلة في الملف النووي الإيراني، وبدا لوهلة أنه متحرر من قبضة التبعية لنتنياهو، حين ذهب للتفاوض الثنائي مع إيران، أي دون الخمسة + 1 المجموعة الدولية التي فاوضت إيران واتفقت معها العام 2015، وكان يكفي ترامب أن يختصر فترة وتعقيدات التفاوض بأن يبدأها بهدف العودة لاتفاق 2015، لكن عقدته المسماة باراك أوباما حالت دون ذلك بالطبع، إضافة للوهم بقدرته على إقناع نتنياهو بأنه يسعى لاتفاق أفضل من اتفاق أوباما، وحتى وهو يحاول أن يجعل من تهديدات نتنياهو لإيران ورقة ضغط تفاوضية عليها، لم ينجح في كبح جماح نتنياهو، أما إطلاق إسرائيل للفصل الأخير من الحرب على الشرق الأوسط بهدف إخضاعه كله لنظامها الإقليمي، فقد أكد أن العلاقة بين إسرائيل وأميركا متداخلة، وأن إسرائيل في عهدي بايدن وترامب هي من تجر أميركا وفق إرادتها.
وقد أكدت الوقائع بالتفصيل الشراكة الأميركية مع إسرائيل في هذه الحرب، لتحقيق أهداف أكبر بكثير من رد الفعل على السابع من أكتوبر - كما أشرنا في أكثر من مقال سابق - وأكبر من إسقاط نظام حكم حماس في غزة، وأبعد كثيراً من منع إيران من امتلاك السلاح النووي، وقد أفصح نتنياهو وجوقته في الحكومة عن نواياهم أكثر من مرة، بالحديث عن تغيير وجه الشرق الأوسط، وتهجير سكان غزة وضم الضفة، واستباحة لبنان وسورية واليمن، وحتى الأردن والعراق، وصولاً للذهاب إلى إسقاط النظام الإيراني، بتسمية فصل الحرب على إيران بالأسد العائد في إشارة لنظام الشاه محمد رضا بهلوي السابق، وهذا يعد عربدة سياسية لا مثيل لها، وتذكر تماماً بعصور الامبراطوريات القديمة.
بقيت أميركا تمد إسرائيل بالسلاح الفتاك المستخدم لتنفيذ حرب الإبادة في قطاع غزة، وفي الوقت نفسه كانت تفشل تباعاً مشاريع قرارات مجلس الأمن الداعية لوقف جرائم الحرب، وآخر تلك المواقف المخزية التي تؤكد الشراكة الأميركية الاستعمارية في الشرق الأوسط، هو استخدامها مؤخراً الفيتو ضد مشروع قرار إنساني في غزة، وكانت الوحيدة من بين الأعضاء الخمسة عشر، حيث صوت 14 عضواً مع مشروع القرار، وفقط كانت أميركا الوحيدة ضده!
وفي لبنان كانت شريكة للحرب العدوانية الإسرائيلية من خلال استمرارها بإعادة «تذخير» آلة الحرب الإجرامية، وكذلك استخدام إمكاناتها وقدراتها على التجسس وجمع المعلومات عن الآخرين، وهذه كلها جرائم حرب، حتى تمكن شريكتها الدولة الوحيدة في الكرة الأرضية، التي ما زالت تخوض الحروب منذ نشأتها قبل نحو ثمانين عاماً، وضد كل شعوب ودول الشرق الأوسط، وبالتحديد والوقائع، إسرائيل خاضت حروبها ضد: فلسطين، مصر، الأردن، لبنان، اليمن، العراق، تونس، وإيران بالطبع، وحتى تركيا حيث قتلت مواطنين أتراكاً عبر جنودها أولئك الذين كانوا على متن المركب «مرمرة» يحاولون مد أهل غزة المحاصرين بما يقيم أودهم.
أما في اليمن فقد أرسلت أميركا بوارجها الحربية وحاملات طائراتها لقصف مطار وميناء دولة تدافع عن القانون الدولي، وتحاول أن تضغط على دولة مجرمة تقوم منذ أكثر من عام ونصف العام بارتكاب جرائم الحرب، ومنذ ثمانين عاماً بتجاوز القانون الدولي، كل يوم، ولعل استمرارها في احتلال ما تبقى من أرض دولة فلسطين منذ العام 1967، يؤكد تماماً، أن إسرائيل دولة مارقة في نظر القانون الدولي، وأن كل دول العالم مطالبة بمعاقبتها والضغط عليها للامتثال للإرادة الدولية وللقانون الدولي، بدءا من إنهاء احتلالها، وحتى التوقف عن تهديد جيرانها الأقرب والأبعد على حد سواء.
ولن نسرد تفاصيل أخرى عديدة تؤكد أن أميركا، الدولة العظمى، بل قائد النظام الدولي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ترتكب جرائم الحرب في الشرق الأوسط بالذات، وغالباً نزولاً عند رغبة إسرائيل، وقد فعلت هذا في العراق من قبل، وها هي تفعله في أكثر من مكان منذ العام 2023، وحتى الآن، ورغم أن ترامب ادعى أنه رجل سلام جاء لتبريد مناطق التوتر، ولعقد الصفقات السياسية، لكنه بقي مخلصاً للنزعة الأميركية الخاصة بالهيمنة والسيطرة على كل العالم، فأميركا تفهم قيادتها للنظام العالمي على أنها قيادة مستبدة وأحادية، لا تتساوى فيها الشعوب والدول، وهي في نفس الوقت الذي حاربت فيه روسيا في أوكرانيا، وفي نفس الوقت الذي ما زالت تحارب فيه إلى جانب إسرائيل كل الجبهات التي تقاوم الاحتلال والعدوانية الإسرائيلية في الشرق الأوسط تسعى لتأكيد نظامها العالمي، مترافقاً مع إقامة نظام إقليمي شرق أوسطي إسرائيلي.
وآخر تغريدات ترامب كانت مطالبة إيران بالاستسلام بلا شروط، وكان قد اعتبر شن نتنياهو للحرب على إيران قبل أسبوع، بالممتاز، وهذا لا يعني أنه شريك وحسب، بل يؤكد فجاجته، وأميركا تبرر حرق إيران وتدميرها، على شاكلة غزة، وإسقاط نظامها، بسبب سعيها لامتلاك الطاقة النووية لأهداف سلمية، في حين أن إسرائيل من حقها أن تمتلك عشرات القنابل النووية دون أن تخضع للرقابة الدولية.
إن انخراط أميركا في الحرب الإسرائيلية على الشرق الأوسط، لا يعزز مكانتها الدولية كقائد للنظام العالمي، وهي وجدت نفسها ليست وحيدة حتى دون بريطانيا في مجلس الأمن، بل تجلس مع نحو عشر دول هامشية في الجمعية العامة مقابل أكثر من 150 دولة !
أما تهديد ترامب بالانخراط الصريح في الحرب ضد إيران إلى جانب إسرائيل، فليس معناه فقط تزويد إسرائيل بالقنابل القادرة على اختراق محطات التخصيب خاصة في فوردو، ولكنه يعني أحد أمرين كلاهما يدخل في باب الشراكة في الحرب، فإما أن يكون ذلك من قبيل التهديد، كما فعل مع زيلنسكي ومع بنما وكندا، من قبل، حتى ترفع إيران الراية البيضاء، فيسجل لنفسه النصر، فلربما ساعده ذلك بالحصول على نوبل، أو حتى فتح الباب لتعديل الدستور ليبقى في البيت الأبيض ما تبقى له من سنوات عمره، أو لأنه متأكد كما جميع المتابعين من عجز إسرائيل عن اختراق التحصينات خاصة في فوردو، وهي بحاجة للقنابل الأميركية الضخمة من أجل تحقيق ذلك الهدف، أما إيران فيمكنها خلال أيام أن تعلن عن إجراء تجارب نووية وينتهي الأمر بإعلانها دولة نووية، وتحقيق الردع التام لإسرائيل، لهذا فقد يكون تهديد ترامب جدياً، كما ظهر من خلال قيامه بخديعة إيران بالتفاوض، ومن ثم السماح لنتنياهو بتنفيذ الضربات المعد لها منذ 8 شهور، وإذا كان ترامب قدم في التفاوض مقترح الاستسلام، فإن توافقه مع نتنياهو على إخضاع إيران بالتفاوض مع الحرب، يهدف إلى أن يقطع الطريق على حرب استنزاف لإسرائيل أو أنه يسارع لإنقاذها من الهزيمة، كما فعلت أميركا في حرب 73.