الذين يصدقون تحليلات الدويري وزملائه يفعلون ذلك لأن «الجزيرة» تمنحهم شعوراً طيباً، لدرجة الإدمان على تحليلاتها؛ شعوراً خفياً براحة الضمير، وإحساساً زائفاً بالعزة، ووعداً وهمياً بالنصر، وتبريراً لتقاعسهم عن فعل شيء حقيقي ومؤثر.
والذين يتابعون المثلثات الحمراء وقصص بطولات المقاومين، ومقتل الجنود الإسرائيليين، وتدمير الدبابات.. يفعلون ذلك لأن هذه الأخبار تمنحهم شعوراً جيداً؛ شعوراً يعوّض مشاهد الدمار والخراب ومقتل وإصابة وإعاقة وفقدان ونزوح وتشرد مليوني إنسان فلسطيني في غزة. بل وينسيهم ضياع غزة كلها..
وهذا ينطبق على من يميلون لأي تحليل يجعل إيران منتصرة وبطلة، وكذلك الذين يصفقون لأي محلل يتحدث عن «المسرحية»، وعن هزيمة إيران المنكرة، ودورها المشبوه.. وكما ينطبق على مؤيدي «المقاومة» بلا تحفظ، وعلى معارضي «المقاومة» في كل شاردة وواردة، بسبب وبلا سبب.
وأزيدكم من الشعر بيتاً، ينطبق على كل فرد حين يتبنى أي تيار، أو يقبل أي فكرة، أو يؤيد أي طرف، أو يعاديه، أو حتى يشجع فريقاً رياضياً.. المصدر الحقيقي وراء كل ذلك هو الشعور الداخلي.
عشرات الآلاف من «المجاهدين» الذين تورطوا في الحرب الأهلية في العراق وسورية وجاؤوا من عشرات البلدان العربية والأجنبية، جاؤوا من آخر الدنيا لأن أجواء الحرب تمنحهم شعوراً جيداً، شعوراً يجعلهم يقترفون جرائمهم بضمير مرتاح، وكل ما عليهم استبدال كلمات القتل والاغتصاب والسرقة بمسميات دينية.
الذين يتصدقون على الفقراء يفعلون ذلك لأن التصدق يمنحهم شعوراً طيباً، يشعرون بأنهم نالوا الأجر، وسينالون مقابل صدقاتهم قصراً في الجنة، بدليل أنهم لا يتصدقون إلا في رمضان، ولا ينتبهون لوجود فقراء إلا في رمضان.. لأن الأجر في هذا الشهر مضاعف.
والذين يفعلون الخير ويتبرعون بأموالهم وجهدهم (دون دافع ديني، ولا طلباً لأجر) يفعلون ذلك لأن التطوع أو التبرع يمنحهم شعوراً طيباً، وإحساساً بالرضا عن الذات.
المرأة حين تمنحها هرموناتها شعوراً إيجابياً مُرضياً تمنح نفسها وروحها لشريكها، وحين ينتكس شعورها تمتنع حتى عن مناولته ملعقة، أو تقريب طبق الأرز باتجاهه.. والرجل حين يتكدر مزاجه وتغلب عليه مشاعر الإحباط والسلبية يغدو عدوانياً نزقاً ولا يُطاق.
الأب الذي يضرب ابنه، والمعلم الذي يعنّف طلبته يفعل ذلك بدافع الشعور بالغضب، ثم يأتي عقله ويبرر له فعلته، بأنها بدافع الحب ومن أجل التربية.
المحقق الذي يعذب المعتقل أو المشبوه يفعل ذلك ليس بهدف انتزاع معلومة، أو الوصول إلى الحقيقة، أو لفك ملابسات قضية غامضة.. يعذب ويضرب ويقتل لأن ذلك يمنحه شعوراً بالرضا وربما المتعة.
الجندي وهو يقتل أعداءه يفعل ذلك بدافع الشعور بالكراهية والرغبة في الانتقام وإشفاء الغليل، ثم يقول إنه من أجل الحق والعدالة والحرية، أو في سبيل الله. والشرطي الذي يتعسف ويتجاوز ويعتدي يفعل ذلك بدافع الشعور بالكبت والغضب ثم يقول إنه من أجل سيادة القانون، والوزير والمدير العام يتلذذ بالتحكم في موظفيه والتنكيد عليهم ثم يقنع نفسه أنه فعل ذلك للمصلحة العامة.
والذي يجادلك بعصبية، ويحاول جاهداً إثبات صحة رأيه، وتسفيه رأيك المخالف له يفعل ذلك ليس بهدف الفهم، أو الوصول إلى قواسم مشتركة.. هو مستعد لطحنك وإخراجك من الملة للحصول على الشعور بالتوازن الداخلي، فمجرد وجود فكرة معارضة لما هو مستقر في عقله يعني هناك مصدر قلق واضطراب وصراع نفسي، وخشية من خسارة سكونه الداخلي.. ولا حل أمامه إلا بالهجوم القوي المضاد على كل ما يقلقه ويشعره بالاضطراب.
الشعراء والأدباء والعلماء والفنانون أنتجوا إبداعاتهم ليحصلوا على الشعور بالرضا، أي لدوافع شخصية بحتة، بصرف النظر عن أقوالهم وعن إيمانهم بالقضية التي يطرحونها، والتزامهم برسالة الفن والأدب والعلم.. الشعور هو الأساس، حتى لو تطلب ذلك تحطيم منافسيهم، رغم قناعتهم بأن منافسيهم ربما يقدمون شيئاً عظيماً للبشرية.
انضمامك لجماعة أو لحزب، واعتزازك بطائفتك أو قبيلتك عبارة عن استجابة لإحساس وشعور داخلي، ثم يأتي العقل بالتبريرات والتفسيرات وإيهامك أن خيارك صحيح ومنطقي.
المسألة كلها تتعلق بالشعور الداخلي، ومن بعد ذلك نضع لها التبريرات والمسوغات، ونجمّلها بالكلمات، ونزيد عليها بالشروح والفلسفات، ونزينها بالشعارات.. الشعور الداخلي هو المحرك الحقيقي، هو الدافع والواعز والبوصلة والمعيار والحكم، وما عدا ذلك قشور وهمية أو افتراضية ابتدعها الفلاسفة والمنظّرون وأصحاب الأيديولوجيات.
في واقع الأمر، كل ما تؤمن به، وكل مواقفك الشخصية، وتصوراتك وتوجهاتك، إقدامك على فعل شيء جيد، أو امتناعك عن فعل ما هو سيئ.. جميع ما سبق منبعه شيء واحد اسمه الشعور الداخلي، ومعياره ما يرضيك أو لا يرضيك، أو البحث عن الشعور بالرضا والسعادة.
دراسات علمية عديدة أشارت إلى وجود منطقة صغيرة في الدماغ مسؤولة عن الإحساس بالسعادة، وهذه المنطقة تتوهج (أو تنطفئ) كلما تصرف الإنسان على نحو ما، فمثلاً قد يشعر البعض بالسعادة إذا ساعد محتاجاً، أو إذا أدخل الفرحة لقلب بائس.. والبعض قد يشعر بالمتعة وهو يقتل ويعذب ويعتدي على الآخرين.. الدافع في الحالتين هو الشعور، قد يكون الشعور غامضاً (أو أنّ الشخص لم يدركه) لكن تجلياته تظهر في تلك المنطقة الصغيرة من الدماغ.