- لماذا اخترت هذا التاريخ كسنةِ أساسٍ للمقال؟
- .........................................
«سأقْطعُ هذا الطَّريق الطويل، وهذا الطريقَ الطويلَ، إلى آخِرهْ
إلى آخر القلب أقطعُ هذا الطريقَ الطويلَ الطويلَ الطويلْ...
فما عدتُ أخسرُ غير الغُبار وما مات منِي، وصفُّ النخيلْ
يدُلُّ على ما يغيبُ. سأعبرُ صفّ التخيل. أيحتاجُ جُرْحٌ إلى شاعِرِهْ
ليرسُم رمَّانةً للغُيابِ؟»
كنت ابن 19 عاماً حين كنت أسير في شارع صلاح الدين ببعض الشواكل التي لم تكن كافية لشراء شيء، لكن صار لها شأن حين رأيت ديوان «ورد أقل» للشاعر محمود درويش. كانت النسخة مقلدة وليست أصلية، ما مكنني من شرائها. عدت إلى بيت دقّو كمن يحمل كنزاً، ولم أحتمل الانتظار فرحت أقرأ الديوان الصادر حديثاً وقتها أي 1986.
كان جيلنا وآخرون قبلنا وبعدنا قد اعتادوا على شعر محمود درويش القديم الذي ظلت ملامحه حاضرة (ربما حتى آخر السبعينيات)، لكنني وقد كنت مسكوناً بمحمود درويش، فقد رحت أقرأ هذا الشعر الجديد الذي راح يرتقي بذائقتي التقليدية القادمة من المدرسة التقليدية.
كان من الواضح أن الشاعر يتحدث عن رحلة الفلسطيني الطويلة، وقد استأنست بالنخيل الذي أعادني إلى العروبة القديمة وتاريخ الشعر العربي، كما جعلني أحنّ إلى موسم الرمان كي أقطف حبة رمان من رمانتنا أو من رمان «عين سلمان».
حين جاء المساء كنت كعادتي أتأمل مغيب الشمس غرب القرية غرب القدس المطلة على الساحل الفلسطيني: يافا وغزة. لم أقطف رمانة، لكن وأنا أتأمل مغيب الشمس على ضوء كلمات محمود درويش قلت لعلني كنت أحاكي في اللاوعي درويش:
«...ولا تأخذ الشمس إذْن أحد كي تشكّل برتقالة عند المغيب».
واحترت فيما أكتب، هل استخدم النفي أم التساؤل: «...فهل تأخذ الشمس إذن أحد حتى تشكّل برتقالة عند المغيب؟»
وما بين النفي والتساؤل قضينا عمراً نتأمل فيه الشعر والوطن؛ ففلسطين القريبة التاريخ اغتصبت وبيعت، وما زال تستلب وما زالت تباع.
هل كنت بحاجة مثلاً لقراءة عدة كتب في تاريخنا الحديث والمعاصر؟ أو لإعادة قراءة ما قرأته من قبل؟ هل كنت بحاجة لمشاهدة ساعات عن النكبة والنكسة وما بعدها؟ فقد لا أحتاج ونحن نرى ذبح غزة الذي يتم بثاً مباشراً. وهل سيطول الوقت ما بين هل ولا؟ تساؤل موجع و»لا النافية» موجعة أيضاً، وأسماء الاستفهام موجعة كلها هنا في فلسطين، وهنا تراجعت البلاغة التي تعلمناها أمام بلاغة الواقع.
قبل 39 عاماً في عام 1986، قال درويش، وما زال يقول:
«سأبْنِي لكُم فَوقَ سَقفِ الصَّهيلْ ثَلَاِثينَ نَافِذَةً للكِنَاية، فلتخرُجُوا مِن رَحيلٍ لكيْ تدخُلُوا فِي رحيلْ.
تضِيقُ بِنَا الأرضُ أَو لا تضِيقُ. سنقطعُ هذا الطَّريقَ الطَويلْ
إلَى آخر القْوْس. فلتتوتَّرْ خُطَانا سِهاماً. أَكُنَا هنا منذُ وقتٍ قليلْ
وعمّا قليلٍ سنَبلغُ سهمَ الِبدايِةِ؟ دَارت بِنَا الرِّيحُ دارتْ، فَمَاذا تقُولْ؟
أَقُولُ: سأَقطَعُ هَذا الطَّريقَ الطَّويلَ إِلَى آخِرِي... وإلى آخِرِه».
لقد حسم محمود درويش، ضمير هذه الأرض الحيّ، أمره وأمرنا حين اختتم بما قاله:
سأَقطَعُ هَذا الطَّريقَ الطَّويلَ إِلَى آخِرِي... وإلى آخِرِه.
وما يعلمه الغزاة (الذين وصفهم رفيق دربه سميح القاسم بعد ورد أقل» بعام بأنهم غزاة لا يقرؤون) أن الشعب الفلسطيني شعب كسائر الشعوب، وليس مجموعة سكان يقيمون هنا للضرورة أو الصدفة.
كان الغربيون في المملكة المتحدة والولايات المتحدة قد اتحدوا في تنفيذ الخطة الصهيونية، لكن مما يستغرب له هو استخدامهم اسم فلسطين في كل خطاب صهيوني لهم، لكنهم كانوا يقللون من أمر شعبها، كأنهم لا يرونه، مع أن فلسطين كانت بلداً حياً ومزدهراً في مجالات الحياة. كانوا بالطبع يعرفون بوجود شعب أصيل وعريق هنا، لكن حسبوا أن الآلة الحربية ستحسم أمر شعبها من خلال تهجيره.
- ما قلت لي ليش 1967؟
- حاضر!
كان في العقل الإسرائيلي المصاب بنشوة الانتصار على الجيوش العربية، أن حرب الأيام الستة قد حسمت أمر الصراع هنا، وبالتالي حسمت الوجود الإسرائيلي في معظم فلسطين التاريخية، لا في مناطق فلسطين 1948.
رغم طرح مقترحات للحلول السياسية للقضية الفلسطينية ما بين الحربين 1948 و1967 - الهزيمتين، إلا أن الحديث عن التسوية السياسية صار أكثر جدية بعد هزيمة عام 1967، وهو العام الذي ولدنا فيه، أيْ أن الاحتلال هو عمرنا نحن المولودون في عام الهزيمة. الناظم في المقترحات الصهيونية كان دوماً عدم تقبّل دولة فلسطينية، والنظر لشعبنا أنه مجرد سكان يحتاجون ما يلزمهم في حياتهم اليومية لا المستقبلية.
وقد انطلقت خططهم حتى وقت قريب بالاعتماد طبعاً على الدول الكبرى، لكن تمسك شعبنا العريق بكونه شعباً أصيلاً، ومن خلال تضحياته الغالية، فقد صار يفرض نفسه كشعب له الحق في تقرير مصيره بإقامة الدولة المستقلة.
لذلك إن وجد الاحتلال بضعة أشخاص يبحثون عن خلاص شخصي لا قيمة له، فلن يجدوا يوماً من يتنكر لوجود شعبه.
ولو كان للاحتلال قلب وعقل لبدأ منذ الآن بتغيير سياسته وفوراً، بتقبّل الشعب الفلسطيني في دولة واحدة أو دولتين، وطلب المغفرة على ما أجرم بحقه. ولكن لا قلب ولا عقل هنا، وسيستمر الاحتلال ولكن إلى آخره، لا آخرنا.
لذلك، فإن الاحتلال واهم بوجود من يقبل الانتقاص من تعريفنا كشعب له هوية وحقوق سيادية، لا في غزة ولا في الضفة، ولعل زهدنا في الحديث عن عصابة هناك أو هنا دليل على استحالة تجاوزنا كشعب عريق.
شعبنا لا يحتاج أصلاً لانتخابات حتى يبدي رأيه، فالبوصلة واضحة ونسير باتجاهها، فكيف بعد قرن من النضال سيقبل شعب فلسطين جبره بحلٍّ ينتقص منه وجوده؟
لذلك اختار الغزاة حلاً لا بإنهاء المسلحين في غزة، بل بإنهاء شعبنا هناك وهنا من خلال الدفع بتهجيرنا، وهكذا فإن الحرب مستمرة حتى لو توقف إطلاق النار، بل إن الحرب بعد وقف إطلاق النار هي الأكثر شراسة، في ظل توقع دولة الاحتلال بقطف ثمار سياسية للحرب العسكرية على المدنيين والبيوت والشجر والتراب والفن والثقافة والتعليم والمساجد والكنائس. لذلك ليس مفاجئاً إصرار الاحتلال (وليس نتنياهو وحده) على عدم الالتزام بإنهاء الحرب بعد الهدنة، وعدم الاعتبار مما يحدث الآن فعلاً وليس من التاريخ فقط؛ فمن الصحيح أن شعبنا أوذي وانتهكت حقوقه خاصة الحق بالحياة، لكنه صار أكثر قوة في حضوره عربياً وعالمياً، سيصعب القفز عنه.
في السبعينيات، في طفولتي، كنت أقرأ أثر هزيمة حزيران على وجوه من شهدوا الهزيمة أطفالاً وشباباً وكباراً، ومع الأيام بقينا نقرأ وجوههم ووجوه من جاؤوا بعدهم، أما ما نستخلصه من قراءة الوجوه فهو نظرة الوجود الدائم، لذلك فإن شعبنا لم يهزم ولن يهزم. أما هزيمة الجيوش في 67 فلم تستمر فكانت الكرامة بعد ذلك بعام، وكانت حرب أكتوبر بعد أعوام، وإن فرضت الحرب يوماً فسيجد المشروع الصهيوني ما يفاجئه، لذلك فإنه يمكر لبلادنا العربية، ومعروف أين يتجه المكر اليوم.
تقرير: مفاوضات الدوحة مستمرة وامريكا توجه رسالة لحماس
11 يوليو 2025