الكيانية الوطنية الفلسطينية الآن… أولوية الشكل على المضمون

6856B50A-A2CD-4EBF-9417-FC22B19504B5.jpeg
حجم الخط

بقلم خالد الحروب

مرحلة ما بعد حرب الإبادة على غزّة هي استمرار للإبادة والتدمير في ثلاثة مستويات رئيسة، وتحتاج إلى مقاومة وجهد جماعي، ووعي أولي وجمعي بها. المستوى الأول، تدمير مادّي فعلي للشعب الفلسطيني وأرضه ومدنه ووجوده في أرض فلسطين وخارجها، وهذا يأخذ أشكالاً فاشيةً متعدّدةً، مثل توسيع المستوطنات وتسليح المستوطنين، وضمّ يومي للأراضي، وتدمير المخيّمات الفلسطينية، والقتل والسرقة وما يرافق ذلك من أصناف الخسّة كلّها. الثاني، تنفيذ مخطّط التهجير المُعلَن في قطاع غزّة بالدرجة الأولى، وفي الضفة الغربية والقدس بدرجات توحّش لا تقلّ كثيراً عن نظيرتهما غزّة، وإن كانت أخفّ ضجيجاً. سيتفاقم هذا الخطر فور توقّف الحرب وفتح المعابر وتوافر إمكانية مغادرة القطاع. الثالث، تدمير أيّ كيانية فلسطينية مؤسّساتية شاملة تعبّر عن وجود الشعب الفلسطيني وهُويَّته الجمعية، وانتظامه في سياق أو سياقات موحّدة. أيّ كيان فلسطيني سيكون هدفاً للتدمير والتفتيت، لتحويل الشعب الفلسطيني مجرّد مجموعات غير متسقة، ولا رابط وطنياً بينها، ودفعها إلى الوراء باتجاه ولاءات عشائرية أو جهوية أو مدينية. تدمير أيّ إطار وطني يوحّد الفلسطينيين ضمن هُويَّة واحدة ينتج جماعات مُتنافسة تستنزف جهدها وطاقتها ومواردها في الصراع الداخلي، بينما تقف إسرائيل عند السياج تراقب وتحصد أرباحاً، ثمّ تلعب دور الحَكم وموزّع المكافآت والمزايا.

تتوقّف هذه السطور عند المستوى الثالث من استراتيجيات التدمير الصهيوني العنصري، الذي يستهدف الكيانية الفلسطينية الوطنية، وأيّ تمثيل لها، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزّة، أو حتى في الشتات. تعني الكيانية الفلسطينية (ابتداءً) وجود إطار مؤسّسي سياسي وهُويَّاتي يمثّل الفلسطينيين، ويعكس وجودهم شعباً ذا هُويَّة وطنية واحدة، وهذا الإطار المؤسّسي هو الناظم الإداري والبيروقراطي الحصري للفلسطينيين. إذا انتفى وجود هذا الناظم الوطني، ولم يتجسّد في كيانية سياسية مؤسّساتية، يتبعثر الشعب، أو المجموعة الوطنية، وتتقلّص إلى مجرّد تجمّعات سكّانية لا يربطها رابط وطني، وكلّ منها تبحث عن مصالحها الأنانية الخاصّة. من دون الغرق في التنظير الزائد، يكفي استدعاء آلية نشوء الكيانية السياسية وشرعياتها كما تأمّلها عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر، وهي إحدى أكثر الآليات أهميةً تقوم عليها فكرة الدولة الحديثة والشعب والشرعية الحاكمة. تقوم الشرعية السياسية وكيانها، تبعاً لفيبر، على واحدة من ثلاث بنيات تأسيسية ناظمة: شرعية تقليدية، قبلية أو طائفية أو جهوية متوارثة من جيل إلى جيل (وتتمثّل الآن في شرعيات الأنظمة الملكية أو القبلية)، أو شرعية تقوم على كاريزما القائد الذي يمثّل العنصر المُوحِّد للمجموعة الوطنية، وقد يستمرّ هذا فترةً من الزمن، تقصر أو تطول، وبعد موت القائد الكاريزمي تتطوّر شرعية سياسية جديدة، وهناك شرعية حديثة قانونية وبيروقراطية تقوم على توافق إزاء توزيع السلطات وتدويرها، وإنشاء بيروقراطية إدارية تقدّم خدمات متساوية للأفراد، وتشكّل في الوقت نفسه البنية التحتية للشرعية السياسية.

هذا النوع الأخير هو ما يهمّنا فلسطينياً، وهو ما تطوّرت قريباً منه الشرعية السياسية الفلسطينية، وإن كانت كاريزما ياسر عرفات قد ساهمت في ترسيخ تلك الشرعية عدة عقود، فقد مثّلت منظّمة التحرير الفلسطينية جوهر الشرعية القانونية الفلسطينية، ومعها البيروقراطية التي دعمت تلك الشرعية، التي انتهت إلى أن تصبح الوطن المعنوي للفلسطينيين حيثما كانوا. بعد اتفاق أوسلو (1993)، كان الهدف الفلسطيني، حتى ولو كان نظرياً وصعب التحقّق بسبب بنية الاتفاق نفسه وانحيازه لإسرائيل، إنشاء سلطة في الأرض الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزّة، تمثّل الشكل القانوني والسياسي والبرلماني الناظم للفلسطينيين هناك، التي ستتحوّل (كما كان تسويق الاتفاق يقول) كيانيةً سياسيةً منجزةً في صورة دولة في مرحلة مقبلة. في وقت لاحق، ومع الانقسام الفلسطيني المرير، نشأت كيانيَّتَين فلسطينيَّتَين في أرض الواقع، تتصارعان، وكلّ منهما تأكل من شرعية الأخرى. المهم هنا أنه برغم الانقسام المدمّر، بقيت هاتان الكيانيَّتان تمثّلان الناظم السياسي والقانوني والإداري للفلسطينيين في المنطقتَين. برغم الخطايا والسلبيات والمصائب، ولأيّ كان أن يصف هاتَين الكيانيَّتَين بما يريد، بقيت كلّ منهما في مكانها عنوانَ السلطة والشرعية السياسية، ومصدر الشرعية السياسية الفلسطينية المحلّية، والناظم الإداري والبيروقراطي. يتوجّه الناس في حوائجهم وأمورهم الحياتية إلى الوزارات والإدارات المحلّية التي تديرها هاتان السلطتان، وعند هاتَين السلطتَين تشتغل نسبةٌ كبيرةٌ من الفلسطينيين، ومنهما يستلمون رواتبهم الشهرية.

الآن، وفي مرحلة ما بعد التدمير المادّي لقطاع غزّة، وأجزاء من الضفة الغربية، تستعر الاستراتيجية الإسرائيلية على مستوى التدمير الممنهج للشعب الفلسطيني على صعيد التهجير المباشر أو غير المباشر، والتدمير الممنهج للكيانية الفلسطينية السياسية، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزّة. تستهدف إسرائيل أيّ شكل سياسي أو إداري يعبّر عن كينونة فلسطينية مُوحّدة، حتى لو لم تكن لهذا الشكل السياسي أيّ سيادة، فضلاً عن أن يكون قريباً من شكل الدولة أو شبه الدولة، وبغضّ النظر عن مضمون هذا الشكل. ينطبق التدمير الممنهج على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، برغم مضمونها القائم على التنسيق الأمني والتعاون مع الاحتلال، وينطبق على أيّ سلطة أو إدارة فلسطينية مقبلة في قطاع غزّة، سواء أكانت حركة حماس أم غيرها، ومهما كان تعاونها مع الاحتلال. ما تريده إسرائيل تحطيم هذه الكيانات واستبدالها بإدارات محلّية لا تعكس وجود شعب فلسطيني موحّد، بل تقوم بما يُناط بها فقط من تقديم الخدمات المحلّية الجزئية هنا وهناك، وبما يكرّس تفتيت النسيج الاجتماعي، وتعميق التجزئة المناطقية والجهوية والقبلية. لذلك، من المهم توجيه التفكير السياسي الفلسطيني الراهن إلى ضرورة نقاش فكرة الدفاع عن الشكل (أي الكيانية السياسية التوحيدية) في الضفة والقطاع معاً، وهو المطلب الملحّ وطنياً الآن، أو في كلّ منهما على حدة، إن لم يتحقّق ذلك المطلب. الدفاع عن الشكل يعني إيلاءه أولويةً على المضمون مؤقّتاً، لأن الهوس كلّياً في المضمون سيكرّس الانقسامات والخلافات حالياً ويصبّ في صالح العدو، ومن منطلق المصلحة الوطنية الظرفية من المهمّ التمسّك بالشكل التوحيدي الفلسطيني والكياني الوطني، الأمر الذي يحتاج إلى نقاش وطني واسع. لا يعني هذا أن المضمون هامشي وغير مهمّ، لكن ما تركز عليه الفكرة هنا أن الظرف الخطير الراهن، إذ الكلّ تحت مقصلة التهديد، يتطلّب تفكيراً بالحفاظ على الحدود الدنيا المُوحّدة للشعب الفلسطيني في أرض فلسطين مهما كانت الخلافات حولها. في المرحلة الراهنة، وللمزيد من التوضيح، لن تقبل إسرائيل بسلطة فلسطينية واحدة تحكم الضفة الغربية وقطاع غزّة، حتى لو كانت هذه السلطة عميلة حتى النخاع، لأن مثل هذه السلطة تقدّم شكلاً من الكيانية التي توحّد المنطقتَين وتقرّ بوجود شعب فلسطيني واحد. تريد إٍسرائيل تذرية الشعب الفلسطيني، وإنهاء كلّ شكل سياسي يدلّل على وجوده.

قبل “7 أكتوبر” (2023) بعدّة أشهر، قال الفاشي الصهيوني بتسلئيل سموتريتش: “ليس هناك شيء اسمه الشعب الفلسطيني، ولا التاريخ الفلسطيني، ولا اللغة الفلسطينية”، مُكرّراً مقولات غولدا مائير الشهيرة في سبعينيّات القرن الماضي، وقادة إسرائيل كلّهم. يعتقد سموتريتش وبنيامين نتنياهو، ومعظم العصابة الصهيونية الحالية، أن عالم اليوم، الذي تسامح معهم في حرب الإبادة مدّة عامَين، ويتسامح معهم في كلّ ما رافق تلك الإبادة، وفي رأسها تهجير الفلسطينيين، سوف يقبل فكرة تدمير كلّ ما له علاقة بالكيانية الفلسطينية، وتحويل الشعب الفلسطيني مجرّد أفراد هائمين في الأرض، لا بوصلة ولا هُويَّة وطنية جامعة لهم.