عن البطولة والمواجهة وقيمة الإنسان

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 


أحاول بين فينة وأخرى نقل أصوات لمواطنين وناشطين من غزة، لنشرها على نطاق أوسع، ولكي نفهم حقيقة ما يحدث هناك، وبمفردات مَن هم في المحنة.. سأنقل بتصرف بعض ما كتبه الدكتور تيسير عبد الله: «يعلن جيش الاحتلال أحياناً عن «حدث أمني صعب»، وسرعان ما تتناقل وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي الخبر، لتنتشر بسرعة فائقة وعلى نطاق واسع، فيتلقفها المريدون بالنسخ واللصق، والإضافة والتحوير والمبالغة، وتختلط الأمنيات بالواقع.. وبعد فترة قصيرة يصدر الجيش بياناً مقتضباً عن مقتل جندي أو أكثر.
نحن نتمنى ونرجو أن تكون جميع أوقات العدو صعبة، ويتكبد خسائر تعادل آلامنا وما ارتكبه بحقنا من جرائم. ولا ننكر على الفرحين لمثل هذه الأخبار فرحتهم. ولكن يجب أن نستقبل مثل هذه الأخبار في سياقها الطبيعي لمجريات الحرب، دون مبالغة ودون تضخيم. ودون أن تطغى على أخبار حقيقية أخرى أهم.
ويجب أن ندرك أننا نعيش في حالة حرب وليس في انتفاضة أو مقاومة شعبية. وفرق كبير بينهما. الاهتمام والفرحة بتوجيه ضربات عسكرية ضد الاحتلال تكون طبيعية ومبررة في انتفاضة شعبية وليس في حرب. في ظروف وأجواء المقاومة الشعبية والانتفاضة تكون أي عملية بسيطة ينفذها شاب «حدثاً أمنياً صعباً» بالفعل، كما فعل عدي التميمي مثلاً، وعشرات غيره، وتعادل كل الأحداث الصعبة التي يتحدث عنها الاحتلال في هذه الحرب.
الحدث الصعب في الحروب يكون في حال التمكن من تكبيد العدو خسائر ضخمة ومعتبرة، أو في حال النجاح في إعاقة تقدمه، أو طرده من أماكن سيطر عليها، أو إجباره على طلب الهدنة والاستسلام. وهذا لم يتحقق منه شيء أبداً طوال أشهر الحرب.
أما مقتل بضعة جنود، أو إعطاب دبابة بينما الاحتلال جرف كل غزة وأباد سكانها، واعتبار ذلك «حدثاً أمنياً صعباً» فهذا نوع من التضليل. وكالعادة. فإن الجمهور الخارجي يحتفي بهذه العمليات، ويشبع بها عطشه العاطفي دون محاولة إرهاق نفسه بالتدقيق بنتائجها وانعكاساتها على أهل غزة.
وإذا كان يوجد في غزة الآن أحداث صعبة؛ فلا يوجد أصعب من الإبادة المتواصلة التي يرتكبها الاحتلال، ومن المفقودين الذين لا يزالون تحت الأنقاض، ومن الأحياء السكنية التي مسحت عن وجه الأرض، من النازحين والمشردين في الخيام والذين يعانون من كل أمراض الدنيا الجسدية والنفسية.. ليس أصعب من مرور عامين من التجهيل على أطفالنا، واستبدالهم طابور المدرسة بطابور التكيات، ولا يوجد ما هم أصعب من الوقوف بخجل في طوابير دخول حمامات قذرة، ولا أصعب من الخوف والغلاء وعصابات سرقة المساعدات، وانكسار النفس أمام بكاء الأطفال والأمهات، والفوضى وانهيار المجتمع.
ليس هناك في الدنيا ما هو أصعب من الأطفال اليتامى، والأرامل والأمهات الثكالى، والآباء المفقودين، وذوي الإعاقة، والمرضى الذين ينتظرون موتهم بصمت، ومبتوري الأطراف الذين يصرخون ليل نهار دون علاج، والمعتقلين في الزنازين وهم يتعرضون للتنكيل والاغتصاب، والشبان الذين فقدوا الأمل بالمستقبل.
لا يوجد أصعب من المجازر التي يرتكبها الاحتلال في كل دقيقة، ولا من أطنان الركام ومشاهد الخراب، والأشلاء والجثث المتفحمة أو التي تنهشها الكلاب».
أما الناشط أمجد أبو كوش، فكتب: «مشهد مقاوم يضع في جوف دبابة عبوة ناسفة مشهد بطولي وشجاع. لأنه عرّض نفسه للموت واستعد للتضحية. أيضاً من يصعد فوق شاحنة المساعدات يعرض نفسه للخطر ويضحي بحياته. ومن يستيقظ في الثانية بعد منتصف الليل، ويزحف على بطنه أميالاً وبمجرد رفع رأسه يتعرض لرصاص القناصة (بما يشبه لعبة الحبار) في سبيل الحصول على كيس طحين هو أيضاً مشهد بطولي وشجاع، والمسعف الذي ينقذ المصابين في أخطر الأماكن مشهد بطولي، كذلك من خاطروا بأنفسهم في رحلات الموت في البحار والصحارى هرباً من الظلم والاستبداد ليصلوا أوروبا هو عمل بطولي وشجاع. وهذا يدعونا لإعادة تعريف البطولة والشجاعة.. إذا كانت البطولة مرتبطة بالقدرة على مواجهة الموت فقط؛ إذاً المندفع بتهور، والانتحاري، والمغامر أبطال.
البطولة الحقيقية ليست فقط مواجهة الموت؛ البطولة الحقيقية يجب أن ترتبط بهدف أعلى، وبنتيجة تسعى لتحقيقها. كل المعطيات الحالية بعد سحق غزة وتدميرها، ومقتل وجرح وفقدان ونزوح مليونَي غزاوي تؤكد أنها معركة صفرية، وغير قادرين على قلب نتائجها، وأننا رجعنا مائة سنة للوراء.
يعز علينا فقد الشبان الفلسطينيين، يعز علي كل فلسطيني أن تكون تلك البطولات والتضحيات دون ثمن، لأجل لقطة تأخذها «الجزيرة»، أو ينتشي بها المتفرجون على مأساة غزة، أو ليقول الحزب الفلاني إننا موجودون، وخيارنا صحيح، هذه اللقطة تعني أن مقتل بضعة جنود أهم من بلد انسحقت وشعب يجوع ويُباد، مش هترخصونا هلقد».
الخلاصة: الشجاعة الفردية لا تصنع نصراً، ولا تُحدث تغييراً سياسيا، وعلى الصعيد الجمعي لا تفعل شيئاً، إلا إذا وُضعت في سياق سياسي عام، يعبّر عن امتداد نضال شعبنا الطويل الذي لم يتوقف عن المقاومة يوماً، وتكون ضمن عملية تراكمية ومدروسة.
الشجاعة الفردية كانت مهمة في الحروب التاريخية، لأنها كانت تعتمد على قوة الجندي الجسدية ومهارته في استخدام السيف وشجاعته، وفقدان أي عنصر منها يعني موت الجندي.
مقتل جنود إسرائيليين لن يغير من سير الأحداث؛ فإسرائيل استعدت لحرب طويلة، ووضعت في حسابها فقدان الكثير من جنودها، وفي الواقع ما حصل أنها فقدت أقل بكثير مما كانت تتوقع. في الحروب التاريخية كان مقتل عشرات أو مئات الجنود يقلب النتيجة، لأنها حروب قبلية تعتمد في قوتها ووجودها على عدد أفرادها.
في الحروب الحديثة تغير كل شيء، الشجاعة ليست شرطاً، فالجندي الذي بكبسة زر قتل وجرح أربعة آلاف كادر وقائد من «حزب الله»، فعل ذلك من غرفة محصنة. وفي المواجهة مع إسرائيل لا نقاتل قبيلة ستجلو إلى منطقة أخرى إذا خسرت جزءاً من جنودها، أو إذا هُزمت في معركة.. نحن نواجه نظاماً دولياً كاملاً، إسرائيل مجرد واجهة وأداة لهذا النظام، وهذه المواجهة تتطلب وعياً وعملاً سياسياً بطولياً.. تتطلب شروطاً كثيرة وصعبة، وللأسف نتعامى عنها، ونتعامل بعقلية ومنهجية القرون السابقة.