من بين ظواهر عديدة سلبية بطبيعة الحال، تتصل بالمتغيرات التي تقع في سياق عملية الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، تستوقفني ظاهرتان خطيرتان قد لا تنتبه إليهما تفاصيل السياسة اليومية. هاتفني صديق ومناضل لم يتوقف عن أداء دوره، منذ أكثر من خمسة عقود، ويعيش خارج فلسطين، وكان يعلق على الحملة الإعلامية والسياسية التي تتعلق باغتيال المناضل في الجبهة الشعبية عمر النايف. ما يلفت نظره، أن هناك عملية انزياح متدرجة في الخطاب السياسي بما يشمل المواطن الفلسطيني، يتجه في كثير من الأحيان لتغليب التناقض الداخلي على التناقض الرئيسي مع الاحتلال. يرصد صديقي، بضع حالات لنساء مكلومات أو شباب أو كبار سن، وهم يرفعون أيديهم ويقولون «حسبنا الله ونعم الوكيل»، تتوزع مرة على حماس ومرة على فتح ومرة على السلطة، وكأن أصل البلاء الذي يعاني منه الناس، صادر عن أطراف فلسطينية هي التي تتحمل المسؤولية. تمنعني وطنيتي من أن أبوح بما أسمعه على ألسنة الكثير من المواطنين، الذين يذهبون في الاتجاه ذاته، حين يعبرون عن حسرة على أيام خوال. لكن النتيجة واضحة، وهو ما تتجاهله القيادات السياسية والفصائل حتى حين تتحدث عن مخاطر وآثام الانقسام. ينسى هؤلاء وأولئك والمواطن أيضاً، أن الاحتلال هو أصل الشرور كلها التي يعاني منها الشعب الفلسطيني بما في ذلك أنه يتحمل الجزء الأساس من المسؤولية عن الحصار والانقسام والظلم الذي يلحق بكل الفلسطينيين، ولكن بدون أن نعفي الفصائل، والمستوى السياسي الفلسطيني المسؤول عن قسطه من المسؤولية. في زمن مضى، كانت أصابع الاتهام، تذهب على نحو مركز، وصريح للاحتلال، حين تقع أية مصيبة لشخص فلسطيني أو جماعة. وكان ذلك الخطاب يعبر حقيقة عن جوهر الصراع، أصلاً وفرعاً، ويعكس تعبئة حقيقية لا تنحرف عن المعرفة الأكيدة لحقائق الصراع وأولوياته. اليوم نلاحظ أن الأطراف الفلسطينية تتربص ببعضها البعض، فما أن تحل مصيبة كخيبة الأمل الأخيرة من لقاءات المصالحة الوطنية، في طبعتها القطرية، حتى يسارع الكل لتبادل الاتهامات وكل يستثمر ما يصدر عن الآخر، لتحميله المسؤولية عن الفشل، وكل ذلك بدون أن يحدث أي تغيير على واقع الحال سواء على مستوى المواقف والرؤى، أو على مستوى الممارسة. لا بل ان الممارسة تتخذ طابعاً انتقامياً من قبل كل طرف ضد الآخر، ما يعكس طابعاً من الاستثمار الرديء، الذي لا يكيد عدواً ولا يسر صديقاً. بوصلة الخطاب السياسي الإعلامي تنحرف بقصد أو بدون قصد عن الوجهة التي تذهب باتجاه أصل وجوهر الصراع، بما أنه صراع مع الاحتلال وأطماعه التوسعية. الظاهرة الأخرى، التي يمثلها توفيق عكاشة، الذي لا نعرف ما إذا كان أكاديمياً أم صحافياً، أم إعلامياً، أم انه مؤرخ. أم سياسي، وقد فاز في انتخابات البرلمان المصري ويملك فضائية هو كل ما فيها، وهو من يشغل برامجها معظم الوقت بتفاهاته وترّهاته وادعاءاته. طريقته الشعبوية في الحديث، تجعله أراجوزاً، يستمتع بعض المشاهدين في الاستماع إليه، ويقدم نفسه على أنه ابن عائلة عريقة، تؤهله لأن يتحدث من فوق كل الاعتبارات، وكل المسؤوليات، وانه الناصح الأكيد، الذي ينبغي للكبير قبل الصغير أن يصغي إليه وأن يتبنى نصائحه دون تردد أو تفكير أو تغيير. يقدم عكاشة نموذجاً صارخاً لمقولة تتردد في بعض الأحيان وتفيد «أن الخيانة أصبحت وجهة نظر»، وتشير بقوة إلى انحطاط سياسي ما بعده انحطاط. بعد أن يصرح بشكل متحد لأبسط المشاعر أنه سيلتقي السفير الإسرائيلي على العشاء في منزله، يعود بالطريقة المتبجحة ذاتها، ويعلن عن خطواته اللاحقة حيث سيلتقي سفراء إسرائيل وبريطانيا والولايات المتحدة مجتمعين، وسيلبي دعوة لإسرائيل يرغب خلالها في أن يلتقي برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. لا يكتفي بذلك بل انه يعلن عن عرض قدمه للسفير الإسرائيلي، فمقابل أن يكشف عن مكان الهيكل الثالث المزعوم، الذي عجزت كل إسرائيل وخبراؤها في الكشف عن مكانه، وأعلن بعضهم عن عدم وجوده أصلاً، مقابل رزمة من المطالبات من بين أغربها أن يسيء للزعيم القومي الراحل جمال عبد الناصر، الذي يترتب على الإسرائيليين أن يقيموا له تمثالاً من الفضة وسط تل أبيب، بسبب ما يدعيه كذباً وافتراءً، أن إسرائيل ما كانت لتكون لولاه؟!! والسؤال هو هل يستحق أن يتم ضربه بالجزمة من قبل أحد أعضاء المجلس أم انه كان يترتب على أعضاء المجلس أن ينهالوا عليه بالجزم حتى يذهب إلى الجحيم. الغريب أنه يعود إلى فضائيته ويتباهى بأنه ضرب بالجزمة خمس مرات، ما يدل على أنه «إنسان وضيع، فاقد الحد الأدنى من الكرامة الشخصية بعد أن فقد كرامته الوطنية. يخرج عكاشة الأراجوز عن كل وأبسط قواعد الديمقراطية والحرية، ما يستحق أن يتلقى حكماً، بدفن فضائيته، وإرساله إلى غياهب الجحيم.