العملية العسكرية في غزة ليست مجرد إجراء أمني يستهدف القضاء على "حماس" والإفراج عن الرهائن، بل جزء من مشروع أوسع يتجاوز الحرب إلى إعادة تشكيل المشهد الديموغرافي في القطاع بحكم موقعه الجغرافي الاستراتيجي.
المفاوضات تستخدم كاداة للمراوغة وشراء الوقت، فالحقيقة ان فكر سموتريتش المتطرف الإقصائي هو السائد حيث لا يرى في غزة سوى ساحة ضغط وعقاب جماعي. المهم فيما خرج عن اجتماع الكابينيت هو "وجود ضوء أخضر أميركي لاحتلال القطاع"، ما يكشف توافقاً ضمنياً بين واشنطن وتل أبيب على أن غزة باتت ورقة في مشروع أكبر بكثير من مسألة الأمن الإسرائيلي.
ليست دولة غزة ولكن بدأت تبرز ملامح الشرق الأوسط الجديد وتطبيق صفقة القرن فيما يمكن وصفه بـمشروع غزة الاستثماري، أو الريفيرا- رؤية غير واضحة، لكنها حاضرة بقوة في دوائر صنع القرار، تقوم على إعادة صياغة جغرافيا وديموغرافيا القطاع لصالح لاعبين كثر في لعبة المصالح الإقليمية والدولية. هذا المشروع، كما تتقاطع معطياته من خرائط الموانئ وخطط الممرات البحرية وربط طرق التجارة، يقوم على إفراغ مساحات واسعة من غزة من سكانها، وخلق مناطق "آمنة" أو "خاصة" يمكن تحويلها لاحقًا إلى مراكز استثمارية أو ممرات استراتيجية تربط المتوسط بالبحر الأحمر والخليج.
في هذا السياق، يصبح التهجير الجماعي، سواء تمّ تحت عنوان الإخلاء المؤقت أو إعادة الانتشار، خطوة جوهرية في خطة اقتصادية- جيوسياسية أكبر. المستفيدون المحتملون ليسوا فقط إسرائيل، بل أيضًا شركات بنية تحتية كبرى، ومصالح إقليمية تسعى إلى السيطرة على طرق الطاقة والنقل البحري، فضلاً عن قوى دولية ترى في إعادة إعمار غزة فرصة لإعادة هندسة المشهد السياسي الفلسطيني بما يخدم توازنات جديدة في المنطقة.
المفارقة المؤلمة أن هذه المشاريع تُطرح في غياب أي مرجعية للعدل أو القانون الدولي أو مبادئ حقوق الإنسان. فالتطهير الديموغرافي الذي يُمرّر تحت غطاء "الحرب على الإرهاب" يهدد بتحويل أكثر من مليون إنسان إلى لاجئين دائمين أي مزيد من الجرائم ضد الانسانية، ويمحو قرونًا من الوجود السكاني المتجذر. وفي الوقت نفسه، تُصاغ روايات إعلامية وسياسية لتبرير هذا المسار باعتباره "فرصة للتنمية" أو "إعادة إعمار" أو "الحلول الإنسانية"، بينما هو في جوهره إعادة توزيع قسرية للسكان لخدمة خرائط استثمارية وأمنية مرسومة مسبقًا.
إن قراءة مشهد الكابينيت في ضوء هذا المشروع تكشف أن ما يجري في غزة ليس مجرد مواجهة عسكرية أو حتى جولة تفاوضية مع حماس، بل جزء من إعادة صياغة كاملة للقطاع، بحيث يفقد وظيفته كموطن فلسطيني مكتمل، ويتحول إلى منطقة ذات استخدامات مختلطة تتحكم بها مصالح رأس المال والتحالفات الأمنية.
هنا تطرح أسئلة كبرى: أين يقف القانون الدولي من هذا النمط الجديد من "الاستعمار الاستثماري"؟ وكيف يمكن للمجتمع الدولي، الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان، أن يمنح ضوءًا أخضر لخطط تحمل في طياتها تهجيرًا جماعيًا وتصفية سياسية؟ والأهم، كيف يمكن للفلسطينيين -قيادةً ومجتمعًا مدنيًا- أن يواجهوا هذا المسار بأدوات سياسية وقانونية واقتصادية تحافظ على حقهم في الأرض والعودة والسيادة؟
غزة اليوم تقف عند مفترق طرق تاريخي: إما أن تُفرض عليها صيغة تهجير واستثمار تُعيد إنتاج النكبة في شكل جديد، أو أن تتحول المأساة الراهنة إلى لحظة وعي واصطفاف وطني ودولي يعيد تعريف الإعمار لا بوصفه مشروعًا عقاريًا، بل كفعل تحرر وسيادة. ما بين صراخ الكابينيت في تل أبيب واجتماعات القاعات الدبلوماسية العالمية تظل الحقيقة أن غزة جزء من فلسطين، وأن أي إعادة إعمار لا تبدأ من حق أهلها في البقاء لن تكون سوى امتداد للحرب بوسائل أخرى.
إن ما يجري في غزة هو فصل جديد من عملية أوسع تستهدف فلسطين بأكملها، فالمشهد من الكابينيت يفضح حقيقة أن الاحتلال والسيطرة ورفض حل الدولتين هي عقيدة سياسية إسرائيلية معلنة. ما يسمّى "إعادة احتلال غزة" أو "ضم الضفة" أو مشروع "يهودا والسامرة" وإسرائيل الكبرى، ليس إلا مراوغة لكسب الوقت وتضليل العالم، بينما يقر الكابينيت الإسرائيلي فعليًا بأنه صاحب القرار وأن فكر سموتريتش الإقصائي هو السائد. ما يجري ليس حدثًا معزولًا، بل جزء من خطة إسرائيلية أشمل تقوم على الاحتلال والسيطرة ورفض حل الدولتين، في وقت يختار فيه العالم أن يتعامى عن الحقيقة: أننا نعيش تحت الاحتلال، الحقائق على الأرض لا يغيّرها اللعب بالمصطلحات.