الشعب الفلسطيني شعب تميز بصفات تفّرد بها عن سائر شعوب المعمورة، كونه شعباً عاش حياة الحرمان والبؤس والفقر طيلة فتره حياته وبقاءه، فمن سلطة الانتداب البريطاني على فلسطين، ثم خضوعه لحكم مصري قبل أن يحتله الجيش الإسرائيلي لمدة خمسة أشهر أثناء العدوان الثلاثي على مصر، بعدها عاد القطاع مجددا إلى الحكم المصري، وفي حرب 1967 احتل الجيش الإسرائيلي قطاع غزة مره ثانية، وظل تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي المباشر حتى انسحبت اسرائيل وإخلت المستوطنات التي كانت قائمة على أرض غزة، وقد أصبح القطاع مشمولا بالحكم الذاتي الفلسطيني بموجب اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل انذاك، ثم جاءت الإنتخابات الرئاسية والتشريعية وأفرزت مجلس تشريعي وشكلت حتى وقتا هذا سبعه عشر حكومه تناوبت على حكم الشعب الفلسطيني، إلا انه ظل شعبا واقفاً شامخاَ لم يسقط أو يلين، بل نراه عند كل المواقف والمحن التي تمر عليه وعلى مشروعه الوطني صلبا قوياً ويخرج دائما مرفوع الهامة والرأس ولكن اصعب ما مر عليه وما زال هو الانقسام الاسود البغيض الذي حطم أركان وجوده وأضعف من مشروعه الوطني، وفي هذا الوضع المظلم الذي ما زال منذ ثمانية سنوات، من التشتيت والإحتراب وإضعاف النسيج الاجتماعي والتفرد، متجاوزاً هذا الانقسام كل الأعراف والقوانين في تحطيم حقوق الانسان الفلسطيني.
شعبنا وبعد تشكيل اول حكومة له تنفس الصعداء وحاول إعادة ترتيب أوراق ووجوده وتمتين جبهته الداخلية وتقوية اسس بنيانه وبنيته التحتية والاقتصادية والمؤسساتية وإعادة ما خرب وتدمر لبيوته ومصانعه ومزارعه ومقدساته من الإحتلال البغيض، والذي اثار به هذا الانتماء الصوت الذي جاء أنذاك من الرئيس الرمز الشهيد ياسر عرفات وهو يحمل الولاء والحب للوطن ويدعو شعبه الى ضرورة المشاركه في الانتخابات وبناء فلسطين الجديدة، والمشاركة المكثفة في بناء الوطن الجديد الذي يحقق العيش الكريم لأبنائه، ويحفظ حقوق الجميع بدون استثناء من الكل الفلسطيني وشارك يومها الشعب في تقرير مصيره بيده.
اليوم ونحن بعد ثمانيه سنوات من وجود الانقسام الأسود، ووجود الحكومة السابعه عشر والتي جاءت بالتوافق بين الكل الفلسطيني، والتي لم تقدر الوفاء بالتزاماتها وسيطرتها على جميع مؤسسات الوطن وخاصة الوزارات والمعابر في قطاع غزة نحتاج من شعبنا وقفه تأمل لمعرفه اين نحن من كل هذا وذاك؟ وماذا نريد؟ والى اين نسير؟ وبحسبة بسيطة يمكننا ان نحدد بوصلة الأحداث القادمة بسؤالنا لأحد هؤلاء عن مديات تواصل الأزمة وحدود نهايتها أو إلى أين نتجه؟ أو إلى أين نحن ذاهبون؟
فهل ستتواصل المواجهات والمهاترات، وسيبقى هذا التشرذم والإنقسام موجود بين شقي الوطن الواحد ولماذا؟ وهل فقد الساسة والقادة القدرة على الحل؟ ولماذا لا يصارح صاحب القرار شعبنا بالحقيقة الغائبة؟ فهذا الشعب الذي طالما تحمل وصبر وعانى وانتظر وما زال ينتظر، وها هو اليوم يعيش أقصى درجات الإحباط!!! فلماذا لا يواجه بالحقيقة من قبل قادته ومسؤوليه؟
إن ما يشهده الوطن من صراعات ومناكفات بين هذا وذاك وخاصة بين الإخوة المتخاصمين وما بين ساستهم وعدم مبالاتهم بالمخاطر الجمة المحدقة بوطننا فلسطين، أمر يؤلم قلب كل فلسطيني حر وشريف، ولا يمكن أن يتحملها الشعب الفلسطيني الذي صبر طويلا إلى ما لا نهاية، فاستمرار الانقسام وتواصل التصعيدات والاتهامات يعمق من عمر الأزمة الوطنية والسياسيّة ويطول بها ومعها، وهذه الأزمة هي بلا شك من أطول الأزمات التي مررنا بها، وكأننا في اختبار حقيقى لمدى صبرنا وصمودنا الذي أصبح أسطورياً بكلّ المقاييس بعد أنّ فقد كلّ الكلام الذي أطلقناه وقلناه كنخب سياسية وشخصيات مجتمعية ووطنية وإعتبارية ووطنيين ومثقفين ومواطنين عاديين، تأثيره أمام هذه الأزمة وهي باستمرارها بهذا الشكل المخيف تزيد في تعقيدات المشهد الفلسطيني لتتراكم السلبيات حتّى أصبحت الحلول والمعالجات صعبة للغاية مع كلّ يوم يمر لأن مرور الأيام يولد مزيداً من المواقف المتشنجة ووجهات النظر التي اغلبها لم يكن موفقاً ولن يكون كونها محكومة بخلفيات مطلقيها وجلهم من أطراف الانقسام الذين سرعان ما يتراجع البعض ويحاول إيجاد تفسيرات وتبريرات ان أحس بعدم قبول ما أعلنه من حديث.
إن ما يروج له البعض من حرص على مصالح الشعب والدفاع عن حقوقه يستلزم مثل هذا القول منه والسير بخطوات واثقة في طريق التفاهم والالتقاء عبر تقديم التنازلات، لأننا نحتاج إلى لحظة يبادر فيها من يريد الحل ويسير إليه بخطوات جريئة ورؤى ومواقف واضحة حتى نستطيع ان نحقق ما يترقبه أبناء شعبنا، فالحديث عن الصراع وتفاقم الأخطاء وتكريس حالة اللامبالاة واليأس في نفوس شعبنا وهبوط مستوى أداء المؤسسات الخدمية والوزارات السيادية وصعوبه الحياة المعيشية القاسيه التي يعيشها ابناء شعبنا منذ تسعه سنوات وإلى أدنى حد هو الشغل الشاغل لهم والحديث عن أمور أخرى عدا ذلك لن يكون ذا فائدة، فشعبنا يفهم أسباب هذا التدني المتسارع للمؤسسات الخدمية والتي تقف الخلافات والتقاطعات في مقدمتها.
إن التجاذبات السياسية اثرت بشكل مباشر وكبير وأحدثت شرخا في الشارع الفلسطيني وبدوره اذا استمر سوف يؤثر على وحدة كل الوطن ارضا وشعبا، فالمشاركات السياسية والتنمية الاقتصادية ووضع خطط مشتركة لتطوير الوطن وإنشاء المشاريع الانمائية والعمرانية وهذه المشتركات العامة هي التي يجب السعي للعمل بها من جميع الاطراف الوطنية والاسلامية والسياسية وبمساعدة رجال الدين ورجال الإصلاح والشخصيات الوطنية والاعلام وذلك لإعادة الثقة بين جميع الأطراف وهذا العمل يتطلب الاستمرارية فيه اعلاميا وجماهيريا من اجل افراغ الذاكرة الفلسطينية من سلبيات الانقسام والاحتراب والصراع بين هذا وذاك للوصول للاطمئنان وإعادة الثقة بين جميع المكونات الفلسطينية، لان الذاكرة دائما تحتفظ بكل ما هو سلبي، وهذا سيأخذ من الوقت حتى يتعود المواطن الفلسطيني على ذلك ولإعادة الثقة بين المسئولين والقيادات والتي عليهم الخروج من النظرة الحزبية والفصائلية الضيقة، لأنهم امام مسؤولية تاريخية سيحاسبون عليها وليثبتوا انهم ابناء للوطن بالدرجة الاولى وليسوا ابناء التحزب فقط.
بعد كل هذه المدة الزمنية التي احتاجها الكل الفلسطيني بقواه الوطنية والسياسية حتى تتفق فيما بينها لإنهاء الأزمات والاتفاق على تشكيل حكومة وحده وطنيه والتي بدورها ستقود الوطن الفلسطيني في المرحلة القادمة لبر الأمان، أصبح لزاما على الكل الفلسطيني السعي الجاد لتحقيق تغيير حقيقي وواقعي لما موجود على ارض الواقع وترك كل مخلفات المرحلة الماضية وما كانت تحمله من اختلاف وانقسام في وجهات النظر والرأي خلف الظهور والانطلاق نحو بناء فلسطين وتنميتها وإعمارها.
إن السنوات الماضية قد شهدت إخفاقات قوية بموضوع المصالحة وكنا دائما نسمع من قاده الوطن الأعذار والمبررات لتلك الإخفاقات، أما المرحلة الحالية فلن يقبل الشعب بأي أعذار لتبرير أي إخفاق يحدث على ارض الواقع والسبب أن كل الأسباب التي كانت تقف عائقا أمام النجاح وخاصة في ملف الحكومة، صحيح هناك الكثير من الملفات بحاجة إلى معالجة وبالتأكيد أن الطريق سيكون صعبا لكنه ليس مستحيلا طالما توفرت النوايا الصادقة والمخلصة لتحقيق التغيير وكلما كان الهدف الأسمى هو خدمة الشعب والوطن والقضية، فبالتأكيد النجاح سيكون حليف أصحاب النوايا المخلصة، لهذا لابد أن يأتي التغيير بفرض التغلب على العقبات والصعوبات التي واجهت عمل الحكومة الحاليه، كما ان المنتظر من التغيير هو معالجة الخلل في الحكومة الحالية ومراعاة شؤون الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني من جميع النواحي السياسية والاجتماعية والمعيشية والإقتصادية والامنية.
وفي هذا السياق يقول امير المؤمنين (عليه السلام) "ليس العاقل من يعرف الخير من الشر بل العاقل من يعرف خير الشرين" وتأسيساً على هذا الكلام المعصوم فاننا لا نكاد نحسن الاختيار في صخب السلطة ومغرياتها فقد لا نستطيع التوازن في الاختيار الصحيح وتقديم الاقل ضرراً على الاكثر ضرراً وربما لا نميز بين الاكثر فائدة من الاقل فائدة وطالما يلجأ المغرورون بالسلطة الى انتقاء اسوء الخيارات التي تؤدي بها الى مسالك المهالك وتضعهم في حالات لا يحسدون عليها، فلو اذعنوا ولو لحظة الى صيحات العقل والضمير وابتعدا عن مغريات الهوى والغريزة لما وقعوا الى نهاياتهم المعهودة وخسروا كل ما يمكن الابقاء عليه، فالمكابره والغرور والعناد وعمى السلطة قد يؤدي باصحابه الى مساحات وخيارات لا يلجأ اليها من يمتلك العقل والوعي ولو باقل مستوياته ولدينا تجارب لا حصر لها في الاداء السياسي المعاصر وربما تجربة نظام مبارك والقذافي وعلى عبدالله صالح وزين العابدين بن علي، هي الاجلى والاكثر وضوحاً من بقية نماذج السلطة، وفق النظرية الفلسفية بكل تبسيط " إثبات الشىء لا يستلزم نفي ما عداه" ان اثباتنا لهذه الظواهر السلطوية الخاطئة لا يعني بالضرورة اننا نريد التأكيد على نموذج معين في واقعنا الفلسطيني المعاصر، وان حساسية الاخرين من ابراز هذه الظواهر لا تعني المشكلة في تشخيصنا لهذه الظواهر بل المشكلة في اولئك المتحسيين الذين يحاولون تطبيق منا نريد تأكيده على سلوكهم بينما لم نكن بالضرورة قاصدين لما يترشح عن هذه السلوكيات اثناء ممارسة السلطة.
إن الحاكم الغيور على وطنه وشعبه يضحي من اجلهما وبذلك يكسبهما ولا يتعالى عن جراحات شعبه او يحاول اتهامه بالخيانة او القصور، ويحاول بكل سعيه ان يكون بمستوى تضحيات هذا الشعب وان يقدم له نموذجاً في القائد المتفاني من اجل شعبه والمضحي من اجل وطنه، فمن يقدم مصالح شعبه ووطنه على مصالحه الشخصية يكسب الامرين معاً فلا شعبه يتركه ولو في المحصلة النهائية ولا يخسر مصالحه التي ستعود اليه بقوة ان كسب ثقة شعبه واما من يقدم مصالح عائلته وحزبه على مصالح شعبه فسوف يخسر المصلحتين معاً وهذه سنة الحياة والاقدار.