قتل الحقيقة، كان على الدوام، هدفاً إسرائيلياً معتمداً طالما أن من يأمن العقاب يسيء الأدب. 238 صحافياً فلسطينياً استشهدوا، منذ بداية حرب الإبادة والتجويع، كان نصيب مراسلي «قناة الجزيرة» القطرية منهم، نحو 8 بين مراسلٍ ومصوّر، وفنّي، ما يؤكّد أن الاستهداف يتجاوز الموقف من «الجزيرة» والعاملين فيها، إلى استهداف كل من يجرؤ على نقل الحقيقة ولو عَبر تغريدة.
اغتيال الصحافيين، يشكل سياسة ممنهجة لقوات الاحتلال، ولم تكن تلك السياسة حصراً على قطاع غزّة، حيث القتال ضارٍ على جبهة السرديّات والهويّات.
شيرين أبو عاقلة، الصحافية الفلسطينية الأميركية المرموقة، تعرّضت للاغتيال، من دون أيّ تحقيق جدّي أو عقاب لمن ارتكب الجريمة.
الولايات المتحدة تواطأت مع عملية الاغتيال، بالرغم من ادّعائها بأولوية حماية مواطنيها من حملة الجنسية، وحيث يرتفع هذا الادّعاء، حين يتعلّق الأمر بمواطن أميركي إسرائيلي، فيصبح على رأس أولويات السياسية الأميركية.
6 صحافيين، من بينهم أنس الشريف ومحمد قريقع، سقطوا دفعةً واحدة، لم تحمهم شُهرتهم، ولا كونهم مراسلين لقناة فضائية ذات تأثير واسع. ولم تحمهم الخيمة التي أقاموها ولا المستشفى، الذي أقاموا خيمتهم في حرمه بعد أن قصفت دولة الاحتلال، القانون الدولي، الذي يضمن حماية الصحافيين والمدنيين وقت الحرب العدوانية.
ارتقى هؤلاء، مثلما ارتقى من سبقوهم إلى حيث المعبر الوحيد المفتوح، إلى السماء، بعد أن أغلقت أمامهم كل المعابر البرّية والبحرية.
لم يتأخّر الإعلان الإسرائيلي عن اغتيال الشريف، وتحمّل المسؤولية عن ذلك، ولكن عَبر تبرير غير مقبول، ويفتقر للأدلّة، كما إسماعيل الغول، تسجّل آلة القتل الإسرائيلي إنجازاً آخر، بأنها تغتال، قادة وحدات عسكرية من «حماس».
هكذا تستسهل آلة الدعاية الإسرائيلية توجيه الاتهامات، والشروع في الإعدام الميداني، بضمان استمرار سياسة الكذب، التي لم يعد يصدّقها أحد، بما في ذلك في دولة الاحتلال.
في الواقع، فإن عملية اغتيال الشريف تقدم دليلاً إضافياً، بعد آلاف الدلائل، على أن الجيش الكولونيالي لا يتورّع عن قتل مئات المدنيين، من أجل الظفر باغتيال شخصية واحدة مقاتلاً كان أم متهماً.
المهم بالنسبة لحكومة جرائم الحرب البربرية، هو إخفاء الحقيقة ومنعها من أن تصل إلى أيّ مكان حتى لو كان ذلك على حساب كل قوانين وقيم الدنيا الإنسانية.
دولة الاحتلال حظرت على «الجزيرة» العمل، ولكنها حين فشلت في تطبيق قرارها في القطاع، قامت بتطبيق ذلك عَبر اغتيال الطواقم، واغتيال ذويهم وتدمير بيوتهم.
الشريف كان قد تلقّى تهديدات مباشرة بالقتل من قبل جيش الاحتلال، وكان يعلم أنه على قائمة الاستهداف، لكنه واصل عمله بجرأة نادرة، انطلاقاً من التزامه الوطني والمهني.
ومع الأسف، تعرّض الشريف لحملة تشويه من قبل بعض أزلام الأنظمة، الذين أصابتهم وأصابتها، مراسَلاتُه الكاشفة للحقائق المرّة، التي تتحدث عن التواطؤ والخذلان العربي والإسلامي.
قبل اغتياله، كان بعض المغرّدين، المضلّلين، والحاسدين والمنافقين، قد شنُّوا حملات تحريض على «الجزيرة»، وقذفوها بتهم لا حصر لها. لم تقف حملات التشويه فقط عند الدور الذي تلعبه، وربطها بالدور السياسي لدولة قطر بل إنه طال المحلّلين السياسيين، الفلسطينيين الذين استضافتهم القناة، تُتهم القناة بأنها تغدق في صرف الأموال لمراسليها وطواقمها، وضيوفها، والأرجح أن بعض هؤلاء يفعلون ذلك، لأنها لم تُتح لهم فرصة الظهور، والحصول على المكافآت، أو لأنهم يعتقدون أنهم هم فقط من يملكون الحقيقة، والقدرة التحليلية.
حين يذهب الشريف وقريقع ورفاقهم، ومن سبقوهم إلى السماء، لا تعود للأموال أية قيمة، فلقد قضوا هم، وأهلوهم، حتى لم يبقَ أحد يمكنه الاستفادة من إرثهم.
في فلسطين لا يمكن اختصار الوطنية، أو تشويهها بالمال، فالصحافي الذي يحمل روحه على كفّه، ويقدّر نهايته المحتملة يندفع للقيام بمهمّته، استناداً إلى أقصى درجات الوطنية والالتزام والمهنية.
قولوا ما تشاؤون في نقد الدور والسياسة التي تديرها «الجزيرة»، ولكن عليكم الاعتراف بأنها كانت ولا تزال القناة الأكثر قدرة، وإسهاماً في نقل الحقيقة إلى العالم، وهي، أيضاً، القناة الأكثر استهدافاً بقتل صورتها وصوتها من قبل الاحتلال.
«الجزيرة» لها إسهام كبير، في معركة الوعي، وفي معركة السرديّة التي أصبحت دولة الاحتلال تشكو من فشلها في هذه المعركة بدليل الحراكات الشعبية، وحتى الرسمية التي تشهدها المجتمعات «الغربية»، بما في ذلك الأميركية وحتى الدولة العبرية.
ثمّة ملاحظات يمكن تسجيلها على أداء وسياسة «الجزيرة»، ولكن بمقارنة تلك الملاحظات والانتقادات مع الإيجابيّات، فإنها لعبت وتلعب دوراً كبيراً لا غنى عنه، ولا تعوّضه بقيّة القنوات الأخرى.
في دولة الاحتلال ممنوع دخول المتضامنين، وممنوع دخول الصحافيين والمراسلين الدوليين والمحققين الدوليين وممنوع دخول وفود أجنبية، أو ممثلين عن الأمم المتحدة.
ممنوع في دولة الاحتلال النشر، إلّا بعد تصريح من هيئة الرقابة العسكرية، ومع ذلك تفشل كل أدوات الرقابة والحظر، في معركة الوعي والسرديّة، ذلك أنّ الأفعال في الميدان، أبلغ تأثيراً من الأموال التي تسعى من دون أمل في تسويق السرديّة الاحتلالية التي فقدت هيمنتها في كلّ مكان، بما في ذلك الكيان الصهيوني الكولونيالي.